21-أبريل-2022
قصيدة صور

قصيدة صور

يا صُور... حين نزلنا إليكِ انتزعتِ من حناجرنا الوتر الفلّاحيّ، وها نحنُ بالكلمات الّتي تعلّمناها منك لا نستطيعُ أن نصفكِ.

 

لا نصفُك لأنّك ما زلت تبحثين في جلدكِ

                          عن فمك المُندمل.

ولأنّك تنطقين بزفيرٍ ساخنٍ

على وُجُوه مُخاطبيك القليلين

لأنّك بلا صوتٍ تحكّين يابستك ورملك

وتُلقين بلا تحيّةٍ يدك

                                       على شمال البحر

 

هذا هُو جسدُك يضيعُ ولا مصباح على جلدك

                                        يقرعُ فوق طُرُقك الهاربة

ستتآكلين وستتجمّعُ حجارتُك كُلّ عامٍ

بعد أن تهبط أوتادُك ستُصبحُ لك كُلّ عامٍ

                                                            جُثّةٌ حجريّةٌ

 

ستقعين عند البحر

بينما تلمعُ مطابخُك من بعيدٍ

 

لقد قامت خصاصٌ سريعةٌ

                                        تحت سُقُوفك السّاقطة

لكنّ النّوافذ الّتي تفتحُ في رمّتك

لا تدعُو المُتنزّهين ولا التّلاميذ.

 

رأسُك بين كتبك وأكتافك ينحني

ولن تستطيع النّسوةُ المُنتظراتُ تحت الأدراج

                                              وفي الغُرف العالية

قُدُوم الأبناء والأزواج المُتخلّفين في الحانات

لن تستطيع الكلابُ الجائعةُ

ولا أرضُك الّتي تغلي بالفئران

أن تمنع طُرُقك من السُّقُوط في الخنادق

                                                          وذرّات المياه

والتّجوُّل في الأدغال الدّاخليّة

أنفاقًا حُرّةً

أن تنزع النُّجوم من عُيون الثُّقُوب

                                                وعُيون الحشرات

 

وتفكّ الشّوارع

من عُقدة إبهامك الضيّقة.

 

ستقعين أيّتُها الأمُّ المُسنّةُ

ولن تقُوم مدينةٌ بعد الآن

ستنزلين على أضلاعك كالمدخنة الهاوية

وترقُدين على الشّاطئ ورأسُك في الرّمال

                                            ككلب البحر

 

لن يُكلّمك أحدٌ فمن يحدسُ أنّك تتكلّمين

وسط نسمتك المُتعثّرة

ووسط مصابيح السّيّارات المُسلّطة على حُدُودك

من يحدسُ أنّ حرفًا أصغر من جناح ذُبابةٍ

ينزلُ مُغبرًّا بالبارود

وسط الرّصاص الّذي يدرُزُ نوافذك

ويصمُتُ في الدّم الّذي يُلطّخُ الأبواب

من يحدسُ أنّ فمك الّذي ضاع في جوفك

كخاتمٍ في بئرٍ

ينطقُ في عاصفةٍ رعديّة

وموجةٍ ترفعُ السّواحل

 

لن يُكلّمك أحدٌ

ولن تتبدّل مياهُك بعد الآن

ستكونين في طرف العالم

وسيرجعُ الجميعُ قبلك

الحدائقُ الّتي تُرافقُ البحر

 لن تجرُؤ على اقتحام أحجارك السُّود

والطُّيورُ المُهاجرةُ تخشى أن تُعتقل

                                              في غُيومك المُدخّنة

سحابةُ أزهار اللّيمُون الّتي تصحبُ المُسافرين

ستهبطُ على تُخُومك القريبة

ولن يصل المُسافرُون

ولن تتبدّل سماؤُك

 

سيبقى لك الهواءُ الّذي يتلكّأ

عند مداخل الأزقّة

يفُورُ دائمًا بالملح والرّمل والذُّباب

ينزفُ على الأواني والسّواقي والأنقاض

ساقطًا هُنا وهُناك

بطيئًا،

مُذ دوّختهُ مُلُوحةُ الضّفاف

ويترُكُ في عُقُود العرق النّازفة

ثقل دُمُوع البحر.

...

كُنت جزيرةً وحصنًا

وخانًا للمُسافرين

لا يتّسعُ نهارُك للبناء

ولا يكفي ليلُك للأحلام

لم تكُن نُجُومُك كبيرةً

ولا قمرُك لامعًا

لذا كان بحّارتُك يسقُطُون على السّلالم

وجُنُودُك يجفُّون في الأبراج

 

على القوارب المُبتعدة

كُنّا نرى السّماء الواسعة

ونُغنّي ونتناسلُ

كحشرات الكُرُوم

نرقُصُ في النّسيم الخفيف

ونرفعُ قصائد وحُبًّا

للّواتي لا يصعدن إلى الشّرُفات

 

تكُفُّ الرُّطوبةُ رياحك

لذا لا تشتعلُ على سُفُوحك النّيرانُ الكبيرةُ

لك قلبُ سمكةٍ ورُوحُ طيرٍ بحريّ

لذا تترُكين موتاك على الصُّخُور

وتسقُطين من ضربة المجذاف

 

أنت حذاءُ البرّ، المُندسّةُ بين شُقُوق الموج

تحملُ طُرُقُ البرّ المُزارعين إليك

وتحملُ طُرُقُ البحر الغُزاة

فتطفحُ السّلالُ بعُيون الفلّاحين

 

يمُرُّ عليك الجُنودُ الفارُّون

ومن نوافذك

يُطلقُون على النّاس في الأسواق

 

هكذا مرّ عُلماؤُك وقُضاتُك ورُؤساؤُك

تحت السّلاح

بينما فُقراؤُك يثقُبُون الأسماك الميتة

بحثًا عن ملح المائدة

 

حين نزلنا من القُرى

أفرغُوا بنادقنا من كُلّ حبّةٍ باقيةٍ

أوقفُونا على موائد

وعرضُونا على السّكارى

قطّعُونا على صخرك

بعيدًا من نُجُوم الحقل

ربطُونا إلى السُّفُن

حمّالين وعبيدًا

على الحبال عصرُوا القُلوب المُدوّرة

                               كتُفّاحات الجبل

وأطلقُوا الأمواج الصّغيرة على جُثث الغوّاصين

 

هكذا كُنّا في أسواقك نرقُصُ بين الطّلقات

نمشي وعُيونُنا في الأرض

كأنّها تبحثُ عن زرٍّ ضائعٍ ورأس إبرةٍ

هكذا بتنا بقُلُوبٍ خصيّةٍ

                                   ووُجُوهٍ كالنّعال

نخشى أن نبتعد فيك

إلى الحدّ الّذي تصلُ إليه جرذانُ اللّيل

نُنكرُ أصوات البرق والرّيح والمطر

لنتعلّم كُلّ يومٍ

لهجة سرطان البحر

المُتعفّن في المياه.

....

هذه أحلامُك تجمُدُ

حالما تخرُجُ من ثُقُوب رأسك المُدبّبة

وها هي تتكاثرُ كحجارةٍ رماديّةٍ

في حوضك الضيّق

 

تبتعدين عن يد البحر المُعانقة

وتغتسلين من الزّبد

لكن تبقى مشاعلُ بحّارتك

تخطُو على الأمواج

 

هل تهمسين بكلمة... هل تحطّمت

على فمك صدفة؟ هل ارتعشت عظامُك لحظةً، أم الدّمعةُ الأخيرةُ تقرعُ في

حجر القلب؟

 

أنت صُورُ الّتي سقطت

من جيب التّاريخ

كيف تبقين على الرّمال

كالعُلبة الضّائعة؟

 

من يدفعُك ثانيةً إلى البحر؟

من يحملُ شجرةً إلى شوارعك المسقُوفة؟

 

ما زال الصّيدُ مُتّصلًا على جبينك

وجبينُك ينتنُ من رائحة الصّيد

والدّماء الباردة

ما زالُوا يُخوّفون التّلاميذ من البحر

والصّيّادين من الكُتُب

 

نحنُ الّذين نتكلّمُ من جُثّتك

نفتحُ نوافذنا في رمّتك المُتصخّرة

نرى الدّماء تنزلُ من العصيّ

                                     والسّكاكين

                                   وورق اللّعب

لكن نبقى إلى أن يصل التيّارُ

إلى أن يُلامس قلبك

 

لا نُفارقُك كأمراء البحر

ولا طُيور اليابسة

فنحنُ لسنا شيئًا سوى قناطرك

                                       وصُخُورك

                                      وأسماكك

وأنت مركبتُنا ندفعُك للجبل والبحر

لكن نسقُطُ تحت عجلاتك

في نهاية اليوم

نُغنّي حيثُ نعملُ

لكنّ الوقت يمُرُّ علينا

ويُغادرُنا أعمدةً ورُخامًا

والوقتُ يتوجّعُ وهو يُكملُ لمستهُ الحجريّة

 

أمامك نحنُ نصطفُّ جُزُرًا مُتباعدةً

وأنت تنقُلين علينا قدمك إلى المياه

في اللّيالي تُسرعُ القواربُ والفُصُولُ

                                         ولن تموتي

ستُحلّقين أيّتها الأمُّ على جُسُورك

ستُحلّقين

بينما تهبطُ جُسُورُك إلى الأودية.

 

  • تتضمن قصيدة "صور" ثلاثة أبواب: البحر، صور، والخروج. ننشر هنا "صور".