25-أغسطس-2015

علاقاتهم الاجتماعية لا تتعدّى سكّان المقابر (محمود حمص/أ.ف.ب/Getty)

كقصّةٍ من قصص ألف ليلة وليلة، تخرج لميس، 6 سنوات، في كلّ مرّة يتم فيها دفن أحد الأموات. تحكي لوالديها القصة كاملة. كيف أنزلوا النائم إلى سريره، وكيف ألقوا عليه الغطاء ورحلوا. تذهب الصّغيرة لمشهدٍ آخر. من دفن ميّت آخر. تعود لتحكي وتقصّ لوالدتها نفس السيناريو. عائلات كاملة لم تجد لها مأوى منذ احتلال فلسطين عام 1948 غير مساحات من أراضي المقابر اتخذت منها مساكن لها. إذ استصلحت أجزاء من هذه الأراضي وقامت ببناء بعض "المنازل". لميس هي واحدة من سكان المقابر، ولا تستوحش.

آخر ما يمكن أن يتخيله المرء حكاية جيل بأسرهِ كبر في مقبرة بين الأموات. يتحدث خميس كحيل، 30 عامًا، وهو والد الطفلة لميس، عن الحياة في "البرية"، كما يطلق عليها ساكنوها، حيث تعتبر أسوأ ما يمكن أن يمر على الإنسان، خصوصًا على الأطفال. استيقظ ذات ليلة على صراخ ابنه عمر فوجد ثعبانًا يلتف حول قدم ابنه. أخذه فورًا إلى مستشفى الشفاء الحكومي بغزة، ولأنه لا يملك ثمن تذكرة العلاج قام بإخراج ابنه من المشفى فور ابتعاد الطبيب الذي قام بإعطاء ابنه علاجًا للسعة الثعبان: "هربت أنا وابني من المشفى كي لا أقوم بدفع الأجرة التي لا أمتلكها أصلًا". قاطعته زوجته: "يومها أطلقت جنونك على عمر وقلت له خليك بالبيت، اذا الله خلاك عايش هيك عايش ما خلاك عايش مع السلامة، ايش اعملك؟". ما زالت الوالدة خائفة على عمر الصغير. وما زال الثعبان يسكن المقبرة إلى جانب العائلة.

تشير الزوجة إلى أن أبرز ما يقوم به أفراد العائلة قبل النوم هو نفض الملابس وأغطية النوم بحثًا عن عقارب أو أفاعٍ مختبئة. كما أن الأطفال باتوا يعانون من حالات من الهلع والتبول اللا إرداي. وتبلغ ذروة المشاهد التي يرونها حينما يدفن ميت في المقبرة أو يكشف عن رفاة ميت قديم، ليدفن آخر معه في نفس القبر، لا سيما وأن المشهد صادم بالنسبة لأي طفل أو حتى بالغ اطلع على عملية دفن كهذه. حفارو القبور لا يخففون الوطء إنما يضربون الأرض بقوة.

في بداية علاقتهما كان يأخذها إلى المقبرة ويعرّفها إلى أسماء الموتى وقصصهم

خميس يعيش بين القبور هو وعائلته في "منزل" منفصل يتكون من غرفة واحدة من الألواح المعدنيّة، بجانب منزل والده الذي يتكون أيضًا من غرفة واحدة، يعيش فيها هو وابنه وزوجته السبعينية. تعاني من أمراض عدة تعيقها عن الحركة.

عائلة كحيل في الأصل من غزة. بسبب الظروف الصعبة اضطروا إلى العيش في المقبرة بعد عام 1948، حيث ولد الأبناء وترعرعوا في المقبرة وكونوا الأسر من زيجات متواترة. ليست ظروفهم أفضل بل إن المعاناة وطريقة العيش ومكانه كانت واحدة. يروي كحيل قصّة زواجه من "أم عمر" حين كانت في سن الثامنة عشر، وهي من سكان مقبرة التونسي التي تقع بحي الشجاعيّة شرق مدينة غزة قائلًا "لم أطمح في الزواج من فتاة تعيش في منزل خارج المقبرة، حتّى علاقاتنا الاجتماعية لا تتعدّى سكّان المقابر الأخرى، فهم منّا ونحن منهم، وبالتالي نحن نعلم كيف نشعر ببعضنا دون كبرياء وغرور وكسر خاطر. وأنا محظوظ في الزواج من أم عمر والتي تكاد تكون الوحيدة التي حصلت على شهادة الثانوية العامة". حديث مأساوي عن عائلات بكاملها تعيش في ظروف مشابهة، وتخلق فيما بينها سلوكًا اجتماعيًّا متقاربًا.

لم يلتحق كحيل ولا أيّ من إخوته بأي مدرسة منذ صغره. ويتابع: "في فترة الخطوبة بدلًا من اصطحابها إلى ساحة الجندي المجهول لتناول البوظة، كنت آتي بها إلى مقبرتنا ويدانا ملتصقتان، أعرّفها على أسامي الأموات والقبور وقصصهم". في هذه الأجواء، غير الرومنسية على الإطلاق، أنجبت العائلة 4 أطفال أكبرهم لميس التي يفترض أن تكون بالصف الأول الابتدائي، ولكن أوضاعهم السيئة وعدم قدرته على توفير المصاريف، أمور حالت دون دخولها المدرسة. بقيت في المقبرة، تحكي قصصًا للموتى وتسمع قصصهم.

بعض الشباب يأتون إلى المقبرة لشراء "الترامادول" وهو نوع من أنواع الحبوب المخدرة

ورغم كل هذا البؤس، كان "منزل" كحيل قد دمر بفعل قصفه بعدد من القذائف العشوائية التي كانت تطلق على حي الشجاعيّة وحي الزيتون في الحرب الأخيرة على قطاع غزة والتي استمرت 51 يومًا، ما اضطرهم إلى النزوح لمدارس الأنروا التابعة لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين، متأملين حدوث تغيّر ما، بعدما دمرت الحرب "منازلهم" في المقبرة. ولكن لم يحدث شيء بعد العداون.  فعادوا لاستصلاح أجزاء من المقبرة والعيش بها. اسرائيل قصفت المقبرة أيضًا.

يبلغ دخل أسرة خميس ما معدّله 10 شيكل في اليوم الواحد/ دولارين ونصف، من خلال بيع بعض السكاكر في الأسواق. وتبلغ معدّلات الفقر والبطالة في قطاع غزّة حوالي 43% وهي من الأعلى عالميًا. وخلال وجودنا في المقبرة صادفنا وجود بعض الأشخاص الذين بدا عليهم أنهم ليسوا من سكان المقبرة، من حيث الاهتمام بالمظهر وارتداء الملابس الجديدة. وفي سؤال وجهناه إلى كحيل قال إن بعض الشباب يأتون إلى المقبرة لشراء "الترامادول" وهو نوع من أنواع الحبوب المخدرة. إذ لا فرصة هنا لكشفهم وتوقيفهم. المؤسف هو استخدام بعض أطفال المقبرة في نقل الحبوب بين المرتادين على المقبرة للتمويه، بين من يبيع ومن يشتري، وهذا يحدث لقاء مبلغ مادي للأطفال لا يتعدى الـ2 شيكل إسرائيلي أي نصف دولار. المقبرة متجر أيضًا.

نحو 27 عائلة فلسطينية تعيش في مقبرة "الشيخ شعبان" التي تقع بين حي الزيتون وحي الشجاعيّة شرق مدينة غزة، بين الأموات. هؤلاء أيضًا، يحاولون العيش على بقايا الطعام المتواجد في النفايات المحيطة في المقبرة، أو المساعدات الإغاثية التي تأتيهم من بعض المؤسسات الخيرية والعائلات الميسورة الحال. وبعد محاولات عديدة في التواصل مع وزارة الأوقاف المسؤولة عن أراضي المقابر وشرطة غزّة، رفضت هذه الجهات التعليق على الموضوع. أما الثعبان، الذي التهم ساق عمر الصغير، فلم يظهر هو الآخر.

لمشاهدة ألبوم سكان مقابر غزة.. جيران الأبدية انقر هنا