20-أبريل-2025
Black Mirror 7

(Imdb) من المسلسل

ما الذي ينبغي فعله لنُبقي من نحب على قيد الحياة؟ سؤال واجهناه جميعًا، وفي مراحل مختلفة من حياتنا، وفي كل مرة نغامر بإجابة متهورة، إلى أن يمر علينا من الوقت والتجارب لنرى من الموت ما يكفي لنيأس، ونهرب من هذه الأسئلة.

تُعيدنا الحلقة الأولى من الموسم الجديد من مسلسل "مرآة سوداء" (Black Mirror)، المعنونة بـ"عامة الناس" (Common People)؛ إلى مواجهة هذا الذي كنا نهرب منه، ولا تكتفي بذلك إذ تقدم مقاربة مرعبة، ليس لجهة الموت أو الذعر الذي يُسببه، في اقتراحها تحويل الحب إلى خدمة الكترونية لا تحتاج أكثر من حساب واشتراك شهري.

حسنًا، فلنشرّح قليلًا؛ مايك وأماندا مجرد زوجَين يشبهاننا: لديهما حب بسيط ودافئ هو كل الحياة بالنسبة إليهما، وعندهما أمل بالحصول على طفل.

تُصاب أماندا بورم قاتل ويتغير مسار الأحلام، لا سيما حين يجد مايك نفسه أمام خيار عصيب: أن يدعها تموت أو أن يربط وعيها بمنصّة رقمية تُدعى "ريفرمايند"، تُبقيها على قيد الحياة مقابل مبلغ شهري. وطبعًا سيفعل ما يمكن أن يفعله أي إنسان طبيعي.. سيقبل.

سألنا أنفسنا سابقًا: ما الذي ينبغي فعله لنُبقي أحبابنا على قيد الحياة؟ وكنا نجيب بشجاعة متهوّرة: سندفعه مهما كان ثمن. ومع مرور الوقت، تعلّمنا أن الموت لا يُقاوَم فاستسلمنا. إلا أن ما تطرحه الحلقة هو سؤال الثمن وليس سؤال البقاء. ففي عالمٍ تمتلك فيه التكنولوجيا الحياة، يمكنها أن تُقسّطها ضمن باقات، لهذا لا يعود الموت هو الرعب الحقيقي، بل الحياة ذاتها.

ينكص الحب بحامله ويعيده إلى زمن الاسترقاق من جديد، حيث يُشترى البقاء ويغدو الذل نموذجًا للمهن

 

وحيث يبدو قرار مايك بديهيًا سيجعلنا نشعر أن في ذلك القرار خطأ ما، إذ يكشف تقدم الأحداث أن وعي أماندا، وجسدها، لم يعودا ملكًا لها، بل أصبحا ملكًا للشركة التي تواصل تطوير خدماتها، وتُغري المستخدمين بالترقية إلى "باقات مميزة" (Premium). وبما أن أماندا لا تملك ما تدفعه تتحوّل إلى منصة إعلانات: تبثّ عبر دماغها مباشرةً، عن العسل، والدين، والأدوية الجنسية.. وتخرج هذه الإعلانات من فمها، كأنها "يوتيوب بلا اشتراك". 

يحدث ذلك دون أن تكون قادرة على تذكره، فذاكرتها لم تعد ملكًا لها أيضًا. ولا يمكنها التخلص من ذلك التشويش سوى بترقية الباقة، أي بالمزيد من الدفع، والمزيد من الألم. فلكون الزوجين فقيرين ومواردهما المادية محدودة للغاية، اختار مايك إيذاء نفسه في بث مباشر لجمهور موقع سادي، كي يستمر في دفع ما يُبقي زوجته "حية" على الخادم. وهنا لا تهان الكرامة الإنسانية فقط، لكن يظهر وجه التكنولوجيا الشنيع: صُمّمت كي تستغل لا لتُنقذ، وصُنعت كي تنهب لا لتواسي.

لا تمنح تلك المنصّة مايك أي مخرج ممكن، وليس أمامه سوى قائمة مهينة من المهام المؤلمة: قلع أسنان، تمزيق اللسان، وإيذاء مؤخرته.. من أجل رفع نسب المشاهدة. ينكص الحب بحامله ويعيده إلى زمن الاسترقاق من جديد، حيث يُشترى البقاء ويغدو الذل نموذجًا للمهن الحديثة. وبهذا يُعيد علينا "Black Mirror" تعاليمه الأثيرة التي ما انفك يكررها: التكنولوجيا، مثل الموت، لا تأتي بلا ثمن!

يغدو صراع الإنسان مع الموت والغياب أسهل من صراعه مع نظام لا يعرف الرحمة، ولا يريد إلا أن يبيع، بدءًا من الحب إلى اللذة، وحتى اللامبالاة، وصولًا إلى الأمل.

باتت أماندا وجهًا إعلانيًّا على خادم شركة. ومايك صار نجمًا في ذلك البرنامج الذي يتابعه الساديون. محاربة الموت كانت أسوأ من قبوله. ما بدا صفقة نجاة كان أفظع من الخسارة نفسها.

ربما تبدو الحلقة نوعًا من الخيال العلمي، لكنها في صميم واقعنا اليومي الذي نغرق فيه في الاشتراكات والفواتير، ونبرم آلاف الصفقات الشيطانية بشكل مستمر مع التكنولوجيا.

والكارثة أنه هذه ليست تكنولوجيا خرجت عن السيطرة، بل هي تعمل تمامًا كما صُممت: تمنحنا الحياة ثم تُقسّمها إلى باقات. تفكّك الحلقة أسطورة سيطرة البشر على أدواتهم، وتذكّر كل منا: "أنت قبلت". ضغطت على زر "أوافق". قبلت أن يتحوّل الحب إلى اشتراك، والوفاء إلى فاتورة، والحنين إلى خدمة مدفوعة.

لا شيء خارج السوق. تؤكد الرأسمالية مقولتها مستعملةً قوتها المادية بحيث تعيد تدوير ما هو إنساني ليصبح سلعةً، بما في ذلك الغياب والحزن.

لم تكن أماندا ضحية برنامج جامح، ولا كان مايك ساذجًا. هما مثالان عنّا نحن الذين بعنا أرواحنا لشيطان الخوارزميات، واستبدلنا الإخلاص له بالاشتراك الشهري. وفي النهاية، ليست المشكلة في فقدان من نحبهم، إنما في أن نحتفظ بهم مقابل إعلان كل خمس دقائق!