30-ديسمبر-2017

أغلب نساء دور القصدير بالمغرب يعملن في مهن هشة (فاضل سنا/أ.ف.ب)

تتعدد التسميات لكن الفضاء الجغرافي واحد، حيث الحياة هناك صعبة، وشروط العيش الكريم لا تتوفر. "مي نعيمة" سيدة في السبعينات من عمرها (ولفظ "مي" يعني أمي باللهجة المغربية)، يبدأ يومها مع بزوغ الفجر، ومباشرة بعد استيقاظها، تشعل شمعة لتضيء المكان والذي لا يتعدى بضعة أمتار، تبحث عن الماء الذي احتفظت به ليلة أمس لغرض الوضوء، تصلي وتتناول ما قد يسد رمقها، وتخرج مسرعة إلى أول حافلة نقل عمومي من أجل الذهاب نحو عملها، تقطن في غرفة صغيرة من حيث الحجم، وتفتقد إلى الكهرباء والماء.

رغم محاولات السلطة القضاء عليها، يتوفر في المغرب إلى الآن عدد من "دور الصفيح" وهي تحيط بهوامش العديد من المدن المغربية الكبرى خصوصاً الرباط والدار البيضاء

ورغم بلوغ "مي نعيمة" من الكبر عتيًا، فهذا لم يشفع لها لتجنب العمل كخادمة بيوت بالدار البيضاء، إذ يعد ذلك مورد رزقها الوحيد، على امتداد  ثلاثين سنة. تقول مي نعيمة لـ"ألترا صوت": "كل شيء تغير إلا عملي أو سكني داخل دور الصفيح".

"مي نعيمة" واحد من آلاف السيدات اللواتي قررن النزوح من قريتهن هربًا من ظروف عيش قاسية إلى مدينة الدار البيضاء، حيث الأمل في العيش الكريم. في البداية، تقول مي نعيمة إن أحد معارفها توسط لها لشراء إحدى "البراريك" بـ"كريان سنطرال" الشهير (أكبر وأقدم أحياء الصفيح في المغرب)، وذلك في ثمانينات القرن الماضي، لكن مع مرور السنوات، انتقلت إلى حي صفيح آخر نواحي الدار البيضاء، والذي يسمى "كريان لوزازنة". تقول بنبرة ساخرة ويائسة في نفس الوقت :" حظي دائمًا عاثر، فلو بقيت في "كريان سنطرال"،  كنت استفدت من برنامج إعادة إيواء سكان دور الصفيح".

"مي نعيمة" ليست إلا واحدة من النساء اللواتي يعشن داخل دور صفيح بالدار البيضاء، حيث تتعدد التسميات، فالبعض يحب مناداة هذه الفضاءات بـ"السكن العشوائي" أو "البراريك" أو "الكريان" أو دور القصدير أو مدن الصفيح، لكنه في النهاية فضاء جغرافي واحد، يحتوي على "مساكن" لا تتوفر فيها ظروف العيش الآدمي. ودور الصفيح هذه تحيط بهوامش العديد من المدن المغربية الكبرى، خصوصاً الرباط والدار البيضاء.

اقرأ/ي أيضًا: القاهرة.. من فقراء المدن إلى مجتمعات الكومباوند (1 ـ 2)

من سكان دور الصفيح في المغرب (عبد الحق سنا/أ.ف.ب)

تاريخ دور الصفيح

وفقاً للمتابعين للشأن المغربي، النشأة التاريخية لأحياء الصفيح بالمغرب ترجع إلى فترة الاستعمار، حيث أدت السياسات الاستعمارية في المجال الحضري إلى بروز السكن العشوائي. وبعد الاستقلال تنامت هذه الظاهرة، وذلك بسبب العوامل السوسيو ـ اقتصادية، وقد عرف سكان الحواضر نموًا متزايدًا بسبب النزوح المتضاعف، مع غياب سياسة عمرانية واضحة للدولة، حيث أدى تهميش العالم القروي إلى هجرة نحو المدن،  دون أن ننسى تدهور القدرة الشرائية لسكان المدن أنفسهم، إذ لم يعد بإمكان جزء منهم اقتناء مساكن لائقة.

كما أن أحياء الصفيح اكتسبت هويتها من تهميش السلطات المحلية لها أيضًا، فيما يخص الخدمات البلدية كجمع القمامة وعدم تزويدها بالمرافق العامة الضرورية من ماء الشرب والكهرباء وغيرها من الخدمات الأساسية، مما يجعل ساكني أحياء الصفيح بالمغرب يعيشون وضعًا اجتماعيًا صعبًا، خصوصًا النساء منهن. تحكي مي نعيمة أنها قضت سنوات عديدة متنقلة من حي صفيحي لآخر، فإمكانياتها المادية لا تسمح لها بشراء سكن لائق.

لم ترزق مي نعيمة بأطفال، مما أدى إلى طلاقها مرتين، لكنها تبنت ابن أختها، وحرصت على تربيته مثل ابن لها، تزوج وأنجب ثلاثة أطفال، ترعرع طول حياته داخل دور صفيح، إلا أنه يعاني من البطالة وقلة الإمكانيات المادية مثل أغلب شباب دور الصفيح، تتابع  مي نعيمة حديثها: "أنا مسؤولة عنه وعن أطفاله إلى حد الآن، أعمل خادمة بيوت، وتعمل زوجته خياطة".  

أغلب نساء دور الصفيح بالمغرب يعملون في مهن محددة، مثل خادمات بيوت أو بائعات في "المحلبات" (المحلبات هي أماكن صغيرة لبيع الحليب ومشتقاته وبعض السندويشات في المغرب) أو خياطات أو طرزات، أو طباخات أو في غسل الأواني في المقاهي، والدخل المنخفض، الذي يشمل هذه الوضعيات المهنية ينعكس بالتأكيد على وضعية المرأة "الصفيحية".

يعاني شباب دور الصفيح من نسب بطالة مرتفعة مقارنة بالنسبة الوطنية بينما تشتغل النساء في مهن هشة

أما عن موقف ابنها من عملها، فتقول مي نعيمة إنه مرتبط بالأساس بدخله المادي، "فكلما كان منخفضًا، سيقبل بالتأكيد خروج زوجته أو شقيقته أو والدته إلى العمل بالخارج، وكلما تحسن دخله كان موقفه من عمل المرأة سلبيًا"، على حد تعبيرها. ولهذا فإن عمل المرأة التي تقطن أحياء الصفيح حسب مي نعيمة، مرتبط بنسبة فقرها.

اقرأ/ي أيضًا: عقارات دمشق.. الشقة بمليار ليرة والغلاء وصل العشوائيات

من سكان دور الصفيح في المغرب (عبد الحق سنا/أ.ف.ب)

العادات تتغير

تغيرت الكثير من العادات والأفكار عند ساكنة دور الصفيح في المغرب مع الزمن، خصوصًا في شق التعليم، تقول "زهرة" وهي زوجة ابن أخت مي نعيمة، والتي تعمل خياطة، لـ"ألترا صوت": "تعليم البنت أصبح ضروريًا، فهو الوسيلة الوحيدة لأجل الارتقاء لحياة أفضل، والحصول على عمل مثل التمريض أو التعليم..".

كما تغيرت نظرة النساء في دور الصفيح ورغباتهن بخصوص ضرورة إنجاب مولود ذكر، ففي السابق، كانت المرأة ترغب بشدة في ذلك وتعتبر أنه سيحميها في المستقبل، لكن في الآونة الأخيرة، أصبحن لا يبالين بل تحبذ بعضهن إنجاب مولودة أنثى، والسبب كما تقول مي نعيمة هو أن الفتاة عندما تحظى بتعليم جيد، تحصل على عمل، فهي تساعد أسرتها بنصيب كبير من أجرتها بخلاف الذكور الذين يصرفون أجرتهم في مصاريف خارج المنزل، والقليل من ذلك الأجر ينقطع عن العائلة بمجرد ما يتزوجون، هذا إن كان الشاب محظوظًا وحصل على عمل، ولم يصبح مدمنًا أو سارقًا.

في هذا السياق، يقول عبد الواحد المنصوري، باحث في علم اجتماع، إن "السكن الصفيحي يعد ملجأ لشرائح كبيرة من المواطنين الذين يضطرون لذلك بسبب تدهور أوضاعهم الاقتصادية والاجتماعية، أحياناً يضطر هؤلاء السكان لدفع رشاو لرجال السلطة وأعوانهم حتى يتمكنوا من إقامة مساكنهم القصديرية، ثم هم يعتبرونهم "وعاء انتخابيًا"، تلجأ السلطات والأحزاب إليه متى احتاجت".

تغيرت الكثير من العادات والأفكار عند ساكنة دور الصفيح في المغرب مع الزمن، ومنها الحظوة المتزايدة للفتيات والرغبة في تعليمهن

وطبعًا "معاناة النساء تكون مزدوجة داخل السكن العشوائي بالمغرب، إلا أن الكثير من الأفكار تغيرت على الأقل فيما يخص عمل النساء وتعليمهن، إذ في السابق كان  تعليم البنت غير ضروري على اعتبار أنها تحتاج زوجًا لا تعليمًا، وبالتالي هي محتاجة إلى جميع الخبرات التي تتلقاها من أمها والمتعلقة بتسيير شؤون البيت وتربية الأطفال، أما في الآونة الأخيرة، أصبحت الفتاة في دور الصفيح تستفيد من التعليم ولو جزئيًا"، يوضح المنصوري.

غير أن حياة النساء بدور الصفيح لا تزال صعبة للغاية، سواء بسبب الظروف الطبيعية، أو من خلال المعاناة اليومية مع النفايات والمياه العادمة، في غياب الربط بشبكة الصرف الصحي، وأيضًا من خلال مواجهتهن للصوص والمجرمين، الذين يقطنون في أحياء الصفيح.

وإلى جانب ذلك كله هنالك العنف الذي تتعرض النساء له من طرف أزواجهن أو أبنائهن، الذين يعانون من البطالة أو الإدمان على المخدرات، أو انتهجوا التطرف الديني. إذ قبل سنوات، كانت كل أصابع المغاربة  تشير إلى "حي سيدي مومن"، الذي يقع في الجهة الشمالية الشرقية للدار البيضاء، بعد أن أكدت السلطات أن ثمانية من منفذي الهجمات الانتحارية، المعروفة بأحداث 16 مايو، ينحدرون من هذا الحي، الذي كان يضم أكبر تجمع للسكن العشوائي في المغرب، بعد ذلك تدخلت السلطات وقامت بإعادة الإدماج لساكنة دور الصفيح بحي "سيدي مومن" وتعويضهم بسكن لائق نوعًا ما.

 

اقرأ/ي أيضًا:

الدولة لم تسمع بعشوائيات نواكشوط بعد!

العشوائيات في مصر.. أرقام ومعلومات