13-مايو-2020

تمتعت المقاومة في جنوب أفريقيا بمحيط إقليمي داعم، بما لا يشبه حالة فلسطين أبدًا (Getty)

أتت طبيعة نشأة مشروع إسرائيل في أرض فلسطين ولاحقًا في الجولان وغيرها من أرض عربية وعليها تحقيقًا لنبوءات الحركة الصهيونية ورسلها، زئيف جابوتنسكي وثيودور هرتزل بشكل مركزي، مركبة وإشكالية بحكم ضرورات متداخلة. كما أتت أيضًا توراتية في الاستلهام الخطابي ضمن روح النفحات القومية للمركزية الأوروبية والمسألة اليهودية معًا، دون أن يكون الاندماج من بين الحواضر على رفوفها. كذلك أتت ضروراتها هذه بما يتساوق مع تركيب وإشكالية اللصوصية والبلطجة مكونان أساسيان في صلب الفكرة والممارسة المتعلقة بكل ما يتعلق بمشروع إسرائيل وصولًا للنسخة النيوليبرالية الفاشية اليوم خاصة بنيامين نتنياهو لما سبق وكانت دولة التعاونيات الكيبوتسية بما استبطنت من روح الاشتراكية القومية الألمانية خاصة الرايخ الثالث.

في باب المقاربة الأفريقية الفلسطينية لا يفترض غياب أهم ما ميز تجربة المقاومة هناك في جنوب أفريقيا، بنباهتها المبكرة فيما يختص بضرورات المساواة العادلة والمواطنة ضمن دولة جميع المواطنين كما ضمن مقولة واحدة موحدة غير موسمية

من بين المحاور الأولية التي لا يمكن القفز عنها ومحاولة تخطيها عندما يأتي الحديث على خاصرة إسرائيل، كما جنبات تركيبة إسرائيل المتراكمة أن هذا المشروع المافيوي إنما يقوم على ثالوث مستمر ودائم من الاستعمار الإحلالي الكلاسيكي بما يتضمن من تطهير عرقي قسري ودزينة الجرائم الرديفة التي نجحت في انتزاع اعتراف دولي واعترافات غير دولية وصولًا لما هو أكثر من مجرد الاعتراف من قبل الصهيونية العربية مكللة بآل سعود، يضاف لعنصر الاستعمار الكلاسيكي كلًا من عقيدة وممارسة الفصل العنصري  بما هو مكمل لسابقه، رفقة الاحتلال العسكري ثالثًا وكل ممكنات النهب التي يوفرها.

اقرأ/ي أيضًا: فيسبوك واستخبارات إسرائيل.. غراميات معلنة

تشكلت علاقة مبكرة بين أباء تأسيس إسرائيل ومن شبوا في ظلالهم ضمن المؤسسة الصهيونية من طرف وبين مجمل القوى الاستعمارية ومشاريع الاستيطان الأبيض في القارة الأفريقية في طرف رديف، أبرزها مع نظام البوير/ الأفركانرز في جنوب أفريقيا. إذ لم تكن مثل هذه العلاقة بالأمر السري، بل كانت على علم كل العالم حتى في أوج حصاد منجزات حركة المقاطعة لنظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا كانت تل أبيب تورد ما يكفي ويزيد لنظام الأبرتهايد في أفريقيا من ذخائر وأسلحة متعددة المستويات والاستعمالات، بما فيها كل ما حرم دوليًا من غاز أعصاب وما شابه من أدوات قمع وتقتيل.

بعض مما يبرر القول المستمر باستمرارية نزوع إسرائيل نحو تطبيق وتمتين الحل الأفريقي، لكن في فلسطين وليس في أفريقيا، من زاوية نظر استعمارية بيضاء، يحضر تقاطع شريطي تاريخ الاستعمار والعنصرية في كلا التجربتين. جاء كل من النظامين، في جنوب أفريقيا في حقبة الفصل العنصري وإسرائيل حتى اليوم، نتيجة فعل استعماري يرتكز على احتلال أرض الآخر والحلول محله، وتبرير هذا الفعل بمقولات استعلائية من نوع العثور على أرض تائهة لا شعب لها أو عليها وترجمتها عنصريًا على الأرض. في الحالتين ارتكز الخطاب السلطوي الاستعماري على ادعاءات توراتية تصب ثقلها في تقابلية "شعب الله المختار" و"الأغيار"، وشكّل أي اقتراب من تحقيق نظام مواطنة ديمقراطي تسوده المساواة وتتسيده العدالة مصدر قلق وخوف لهما على وجودهما واستمراره.

ما يحضر في باب المقاربة الأولية المكشوفة أيضًا، مستويات ما قرر كلا النظامين منحه للسكان الأصلين الذين حولاهما إلى هنود حمر حرفيًا. وما تفضل الرجل الأبيض المستعمر، أشكنازي أو أفريكاني في فلسطين أو في جنوب أفريقيا، إلا  غيتو يأتي على شاكلة أقل من بانتستون أكبر من مزرعة بقليل. وإلا لما استعرض الحاكم العسكري  للضفة الغربية المحتلة نداف فيدان عضلاته على الحواجز العسكرية، الثابتة والمتنقلة، وحملات الدهم والاعتقال وأحاديث الضم كما أحاديث الفيسبوك بالشكل التحقيري الذي يفعله. إذ يبدو أن الحاكم العسكري عينه  يرى فيما يراه عند إلقاء البصر على الضفة الغربية بأنها مجرد ضيعة/إقطاعة متوارثة.  

في عين الوقت، وعلى فترات متباينة، تصاعد الحديث عن تجربة النضال  في جنوب أفريقيا ومواجهة نظام الاستعمار والفصل العنصري بالنسبة للفلسطينيين. وهذا أمر يقع ضمن دائرة استلهام الخبرات والإفادة من قوة ضرب المثل ما أمكن، كما يفترض. لكن في الوقت الذي تمر به المسألة الفلسطينية ومعها كل من هو فلسطيني بمعنى من المعاني  في نفق جمود وبعثرة تراكمي لا يصعب تحسس أثره يكون من الأولى قبل طرح المغنيات ومغازلة تجارب الأخرين، الضرورية، فهم ما للذات وعليها، بمعانيها الجمعية الكاملة.

بينما تقف منظمة التحرير الفلسطينية أو جهاز السلطة الفلسطينية اليوم موقف  صاحب الخطاب الاستعدائي لقطاع واسع من الشعب الفلسطيني وقوى وأشكال مقاومته، لا توفر فرص المجاملة المجانية لأحد أساسات العته وإلحاق الضرر بالمسألة الفلسطينية، أي معسكر الصهيونية العربية كاملًا بتقدم آل سعود له. كما في الوقت الذي توغل تل أبيب ومعها واشنطن وكامل أصدقائهما في محاولة إذلال ما تبقى من فلسطين والفلسطينيين على درب الخلاص الأخير منهم وليس لهم تستكفي القيادة المفترضة للفلسطينيين بالتهديدات المكررة والملطفة المتقادمة عينها.  

في باب المقاربة الأفريقية الفلسطينية لا يفترض غياب أهم ما ميز تجربة المقاومة هناك في جنوب أفريقيا، بنباهتها المبكرة فيما يختص بضرورات المساواة العادلة والمواطنة ضمن دولة جميع المواطنين، في حين أن وحدة وثبات المطالب/الأهداف ووضوحها كان عنصرًا دائم الغياب عن خطاب ممثلي الشعب الفلسطيني منذ أن أصبح للفلسطيني تمثيل معترف به عربيًا، وفي بعض الأوساط الدولية، منذ 1965- ...

عنصر آخر لا يحضر إلا في باب مركزيته أيضًا، يتمثل في ممكنات قيادات المقاومة الجنوب أفريقية في ممارسة دورها في إدارة الصراع مع النظام العنصري، خصوصًا في إدارة الشأن الداخلي بين الألوان الأيدولوجية والسياسية العديدة التي شكلت المقاومة الأفريقية متجنبة الاحتراب الداخلي في مجتمع تشكل القبلية أحد أهم بنياته. بالطبع  الحديث عن جنوب أفريقيا ما بعد 1994 له شؤون مغايرة تمامًا بقدر ما رأت المقاومة ورجالها من مصائر يوم "تقاسم الغنائم"، لكن أقله يكون التقاسم، لا التقسيم، أخف وطأة عندما يحضر على عتبة ولادة نظام جديد فوق جثة سابقه.

أمر آخر يمكن الانتباه له في المقاربة المعنية، وليس أخيرًا نهائيًا بالضرورة، أن من قاتل وقدم واشتغل تحت راية المقاومة في جنوب أفريقيا وجد ملاذات آمنة وداعمة في دول الجوار الأفريقي وما بعد الجوار باستمرار، لوجستيًا وسياسيًا، ممن كانوا قد حققوا استقلالاتهم وجانب من تقرير مصائرهم. بينما ليس للفلسطيني أمام عرب افتتاح سفارات تل أبيب المستمر وحراستها المستمرة أيضًا إلا ممكناته هو على ما يبرز نفسه باستمرار في حركة الواقع وحقائقه. بهذا يكون باب الحل الأفريقي مشرعًا  أمام الصهيونية في فلسطين  بما هو حل استعماري، بينما ممكنات نسخته المضادة للاستعمار مقفلة أمام الفلسطيني، لكن ليس بشكل تام ونهائي.

 

اقرأ/ي أيضًا:

غير المتغير في مسخة القرن

موجات تقديس الأدوات.. هنا تتوه الثورات