26-أغسطس-2020

أعلام فلسطينية تقف في الضفة الغربية (Getty)

في الصِّراع التَّاريخي هناك دائمًا راهنٌ، وهناك ضمنَ حيثياتِ هذا الرَّاهن تحوُّلاتٌ، وفي عمقِ هذه التحوُّلات تبرزُ المبادئ، والمواقف، والتساؤلات التي تتبنَّى رؤيةً مُغايرة وتحليلًا واعيًا للظَّواهر والأحداث، محاولِةً صياغة نموذجٍ جديدٍ للنِّضال المُستمر، غيرَ مكتفيةٍ بمُغالبة العطب التاريخي، وبتوجيه النقد لكلِّ التنظيمات والأُطر التي نجمَ عن خياراتها الخاطئة ذلك العطب.

لا شكَّ أنَّ قيَمَ الحداثة هي جزءٌ من منظومة القِيَم المؤسِّسة لأيِّ فعل ثقافي يُواكب باستمرار التحوُّلات في مجال المعرفة، وانعكاساتِها على أرضِ الواقع

عن "معركةِ الثقافة" أتحدَّث، وليسَ تنظيرًا سياسيًّا يَفترضُ، بما لا يُمكن الاستغناء عنه، مراجعةً قاسية للكثير من المبادئ والقيم الثورية والفكرية، دون التخلي عنها، لكنْ، بما يجعلُها ناجعةً ضمن عملٍ مؤسَّساتي وجماعي وفردي مُقاوِم ومُستمِرّ، يبني جدارَ صدٍّ ضدَّ كل استيلابٍ مُمنهج ومخطَّطٍ له عبر أزمنةٍ، أُغفِلت فيها عواملُ عدَّة كالتطوُّر الفكري والتِّقني الهائل، وما يُصاحبه من بحثٍ دائم عن مواقع استراتيجية في خارطة العالم الجيوسياسية. لا شكَّ أنَّ قيَمَ الحداثة هي جزءٌ من منظومة القِيَم المؤسِّسة لأيِّ فعل ثقافي يُواكب باستمرار التحوُّلات في مجال المعرفة، وانعكاساتِها على أرضِ الواقع. فعلٌ؛ يستندُ على رؤى ومفاهيم تتجاوز صُوَرَ التنميط والتقليد والانكفاء على ماضٍ أُسْتُنزفَ مُحتواه، ولم يعد فعَّالًا كما كان في بداياته. فالحتمية التاريخية تتطلَّبُ حركية مستمرَّة في الزَّمن، والاستمرارية لا تتحقَّق إلا بتجديد الأدوات ونقد الذات والاعتراف بالهزيمة. بل إنَّنا للأسف، نُواجه تكريسًا لشرعيةٍ تاريخيةٍ تجاوزتها الأحداثُ والتطوُّرات السَّريعة، بينما ظلَّت مُتمسِّكة بماضٍ عتيقٍ يمنحُها، إلى جانب الولاءات الخارجية، فرصةَ البقاء، كواجهةٍ لمجتمعاتٍ تعيش مآزقها اليوميَّة، بعيدًا عن الأبواب المُغلقة لمباني الحكومات وقصور الممالك.

اقرأ/ي أيضًا: حذف فلسطين

سأصوِّبُ الحديث إلى ما تُسمَّى بـ"النُخبة المُثقَّفة"، ومواقفها تُجاه واحدة من قضايا العصر الحديث، ألا وهي "القضية الفلسطينية". ولن أدخل في جدالٍ حول طبيعة المأساة التي يعانيها الإنسان الفلسطيني منذ بداية الاحتلال الإسرائيلي، بوصفِ الأخير كواحد من الاحتلالات العسكرية الصَّريحة الباقية إلى حدِّ الآن. لأنَّ ما طفحَ إلى السَّطح هذه الأيام من تصريحاتٍ ومواقفَ ومزايداتٍ يضعنا في حيِّز تساؤلٍ متجدِّد حول مفهوم "المُثقَّف" وطبيعة تعاطيه مع ما يدور حوله. فالكثير من الأصوات راحت تستحضرُ ما تعيشه شعوبُ العالم من مآسٍ وأزمات، في عمليةِ مقارنةٍ غير بريئة مع مأساة الشعب الفلسطيني، كأنَّ الأمر يحتملُ نوعًا من المفاضلة! هذا دونَ الحديث عن تلك الأصوات التي تقول إنَّه علينا الاهتمام بشأننا الداخلي وحلّ مشاكلنا بالأوَّل؛ دون أن نجدَ لها صوتًا في الداخل، بحجّة أنَّ الظروف صعبة وشائكة وعلينا "التأقلُم" معها. نحن هنا أمامَ أنواعٍ كثيرة من أصحاب المواقف المجَّانية، الذين يتناسونَ جملةَ الأخطاء الجسيمة التي ارتكبَتْها في حقِّ شعوبِ المنطقة أنظمةٌ شمولية تتمسَّك بقانون القُوَّة، والدَّولة الأمنية، بل وبالتوقيع الإلهي، لمصادَرةِ أيّ محاولة لبناء مشروعٍ ديمقراطي يحقِّق العدالة الاجتماعية والمساواة والحرِّية.

مفهوم "الفردانية" لا يزال بعيدًا عن التحقق في العالم العربي، والفرد لا يتمتّع بأيّ استقلالية ذاتية، ولا يملك هويته إلا داخل الجماعة، والتي غالبًا ما تُصادر نيابةً عن السُّلطة الكثير من الحريات ومحاولات الخروج عن السياق الاجتماعي العام. لكن السؤال الذي يُطرح هنا: هل هذا يُبرِّر موقف "المثقَّف" الذي لأجل مصلحة شخصية، يضطلع بمُهمَّة إرساء دعائم الأنظمة القائمة وتثبيت مصالحها السياسية والأيديولوجية؟ مصوِّبًا جهوده ومواقفه الجاهزة بغية الحصول على امتيازٍ ما، أو الظفر بمجدٍ مزيَّف وجوائز ومنحٍ مالية، هي شكلٌ آخر من أشكال الاستقطاب الثقافي لتكريس الزَّيف الإبداعي وتنميط صورة "الـمنسِّقٍ" هذا والذي مصيرُه الاندثار والإهمال بمجرَّدِ انتهاء مُهمَّته في معادلة شراء الذِّمم. العملية مُركَّبة على نحوٍ معقَّد، فكما يوجد مثقفٌ انتهازي نفعي، يوجد مثقَّفٌ نضالي مُزيَّف، وآخر مُهمَّش خائف، ورابع مُنعزِل غير آبه، وغيرهم من اللَّافاعلين. وما يمكن أن يدور بينهم من سجالات، ليس في واقع الأمر سوى تمثيليةٍ مُملَّة، لا علاقة لها بالمتغيّرات الخطيرة على السّاحة. ومن غير المُستبعد أن تنقلبَ الأدوار في هذا المشهد المسرحي البائس الذي يدَّعي امتلاك "الحقيقة". لكنْ، تظلُّ القضية الفلسطينية في جوهرها قضية كلِّ إنسانٍ حرٍّ يلتحمُ، أينما وكيفما كانَ، بالطَّبقات الصَّاعدة، بمنأى عن أشكالِ الانسلاخ الدراماتيكي عن الواقع.

مفهوم "الفردانية" لا يزال بعيدًا عن التحقق في العالم العربي، والفرد لا يتمتّع بأيّ استقلالية ذاتية، ولا يملك هويته إلا داخل الجماعة

الخطير، إضافةً إلى كلِّ هذا، هو تشويه المفاهيم وتحويرها لصالح أجندة تنتهجُ منذ سنواتٍ بعيدة سياسة الاستقطاب، إعلاميَّا وثقافيًّا وعلى أكثر من مستوى، لصناعة لوبيّ جديد، يعمل على ضرب مفاهيم الحرِّية والأرض وحق العودة والنضال وغيرها من مكوِّنات القضية لدى جمهور المتلقِّين. ممَّا يؤكد، دائمًا، حجم المسؤولية والجبهات المفتوحة والتهديد الداخلي قبل الخارجي. ستطفو العرقية والعصبية، في الموالاة ونقد المُنتقدين، أو بالأحرى الشتم، واعتبار "الشتيمة" موقفًا لا يحقُّ لنا انتقاد صاحبه. ستظهرُ أبواق أخرى أكثر جرأة، تتحدَّث عن الاختيارات الاستراتيجية الخاطئة بالتخلي عن حلفاء أقوياء والالتفاف حول قضايا أصدقاء ضعفاء. سيكونُ لفئة أخرى طروحات مُشتِّتة، بإقحام قضايا الراهن العربي وما تعانيه الشعوب جرَّاء الحروب الدائرة والتوترات الإقليمية، كنوعٍ من إدانة الأصوات التي انتصرت لفلسطين ولو بصوتٍ خافت، في توقيتٍ يشي بتحاملٍ صريح ومحاولة لئيمة لتشويه المفاهيم وتوجيهها وفق الخطابِ الرسميّ، بما يخدم الطرح الجديد ويضمن بقاء المصالح الضيِّقة أو الرغبة في الاستفادة منها مُستقبلًا. تكفي نشرةُ أخبار واحدة لنكتشف حجم المأساة، ومَن كانَ متشبِّعًا بالأخلاق الإنسانية، فألمُه لا تحدُّه الجغرافيا ولا الزَّمن، ذلك أنَّ الحقَّ في التحرُّر سواء من الديكتاتوريات مُترامية الأطراف أو من الاحتلال والتطلُّع للعيش بكرامة وحرية؛ لا يسقط بالتقادم ولا يقبلُ التنازل، مهما استحقَّ من تضحيات.

اقرأ/ي أيضًا: تحالف الشرّ

قد يكونُ للصَّمت أحيانًا صفة معدنٍ ثمين، إن لم يكن مُقترنًا بخيار السلطة في عدم التَّعبير عن أيِّ موقف مباشر أو غير مباشر من قضية التحالف مع العدو، خاصَّة إذا كانَ الكلامُ الذي سمعناه وقرأناه وسنسمعه ونقرأه في قادمِ الأيام، من أصل معدن ناسهِ، وقد أثبتوا أنَّهم أسوأ من سلطةٍ سياسية أوراقُها منذ أمدٍ بعيدٍ مكشوفة. وبالعودة إلى "النخبة" فإنَّها بهذه النظرة التي تعتبر الفئات الاجتماعية مجرَّد "قطيع"، هي تُبرِّر ممارسات السُّلطة القمعية والفاسدة من جهة، وتتخلَّى، من جهةٍ أخرى، عن دورها في دراسةِ وفهم الفئات المجتمعية والتّعمُّق في تحليل توجُّهاتها ورؤاها لقضايا الراهن. جاهزيةُ الأحكام عملُ "الجماعات المُغلقة" أو "المؤسَّسات الرَّسمية الأحادية"، والتي تقيسُ المسافة بينها وبين الجماهير بما يُكرِّس بقاءها مِنْ تجهيلٍ وتخويفٍ وإيهام، في مقابل المطالب الأساسية التي تحكمُها مُعادلات واضحة من سبيل: "الحقوق والواجبات"، "الأداءات والخدمات"، "العمل والمحاسبة"، وغيرها من ثنائيات العلاقة بين الحاكم المُنتخَب والمحكوم النَّاخب في المجتمعات المتقدِّمة.

ثقافيًّا دائمًا، أنا أعتبر أنَّ العمل الحقيقي يبدأ من تحقيقِ مبدأ النِّضال المُستمر، طالما أنَّ هناك حقٌّ مسلوبٌ. والاستمرارية في النِّضال هي الأرض الصَّلبة التي تُبنى عليها باقي الأسُس. على أن تؤخذ بعين الاعتبار دينامية العمل وتجدُّد الرؤى، ونقدِ الماضي ووقائع التاريخ ليس لاكتساب شرعيةٍ أو إنتاج نمطٍ دغمائي أحادي؛ إنَّما لتفادي تكرار الأخطاء، وترتيب الأولويات وأشكال وطرق المقاومة للخروجِ بتصوُّر مُشترك، يُحتِّم على الفرقاء، في الدَّاخل الفلسطيني كما في الخارج، في هذه الحالة؛ استلهامَ نموذج لمشروعِ تحرُّرٍ لا يختلف عن طموحاتِ أيّ شعبٍ مُتجذِّرٍ في أرضهِ، برصيدٍ نضاليٍّ وتاريخيٍّ له أن يُشكِّل منطلقًا فعَّالًا لقلبِ موازين القوى، بعيدًا عن ردودِ الفعلِ وانتظارِ إملاءات القوى الخارجية المُهيمِنة، أو استجدائها للتدخل واقتراح الحلول. الخدعةُ بصريةٌ على نحوٍ ما، وقد مارستْ الميديا الحديثة وشبكة المنصَّات تأثيرًا كان سلبيًّا في غالبيته، كرَّس لإمبريالية جديدة اختارت أدواتها للسَّيطرة والاستغلال.

منذ 2011، لم يعد واقع العالم العربي تربةً صالحة لنموِّ دكتاتوريات جديدة

منذ 2011، لم يعد واقع العالم العربي تربةً صالحة لنموِّ دكتاتوريات جديدة، كما لم يعد الإنسان العربي الذي انخرط في الحراك والثورات؛ يقبلُ ممارسات السلطة ونُخبِها في دولٍ تحرَّرت من الاستعمار شكليًّا ولم تؤسِّس لمشروع الحرِّيات ومكاسب الحداثة، بل تحوَّلت إلى كيانات وظيفية للاستعمار، وبالوكالة، ضدَّ أيِّ محاولة للتَّغيير أو التحديث، ولا شكَّ أنَّ "المثقَّف السُّلطوي" ساهمَ بشكلٍ كبير في تكريس هذه الكيانات وفي غيرها من أنظمة الحُكم الريعية، متناسيًا أنَّ صفحات كتابِ التاريخ لا بدَّ وأن تُقلبَ وتقلِبَ معها ما كان يعتقدُ أنَّه ثابت ونهائيٍّ.

 

اقرأ/ي أيضًا:

القصص التي ترويها فلسطين

في معنى أن النكبة ليست حدثًا