22-نوفمبر-2022
فادي الشمعة

من المعرض

لا تنتمي أعمال الفنان فادي الشّمعة التي يعرضها حاليًا في غاليري جانين ربيز البيروتيّ إلى النّسق التعبيري، أو أيّ نسق تشكيلي، أو غنائي آخر، بقدر انتمائها إلى الشّخص الّذي يرسمها أو الحالات التي تقدّمها. لعلّ أبرز فكرة يخرج بها النّاظر إلى اللّوحات، هي العفويّة التي تُطالعُ وتُحاوِطُ المتفرّج أثناء تجواله.

قبل أن يبدأ الزائر تصفّح هذه اللّوحات، لا بدّ له من أسئلة. أسئلة تبدو لوهلة أولى مشكّكة وعالقة، إلّا أنّ التوغّل عميقًا في تفاصيل الأعمال يُفصِحُ ويكشِفُ عن مفاتنها وبواعث استفزازيّتها.

ليس من السّهل الحديث عن كائنات فادي الشّمعة المتمترسة في اللّوحة. رغم الأحجام التي تحتويها إلّا أنّها من البساطة بمكان يجعلُها قائمة على تنويعات لونيّة متضاربة

أسئلةٌ تخدمُ لوقت طويل، وقد تتعذّرُ الإجابةُ عليها. مثلًا حين نسألُ عن الهويّة أو البصمة أو الضّياع الذي تخلّفه رؤية هذه الأعمال، ذلك الضياع ذاته الّذي نراه يوميًا على مفترق الطرق وأنحاء البلاد. حريٌّ بنا أن نسأل أيضًا أمام هذه اللوحات عن المعنى والجدوى الذي ستخلّفه فينا، وعن الرّؤية أيضًا. هل نحن أمام فنّ رؤيويّ؟ فنّ يحملُ رسالة أو يسعى لأن يقول شيئًا؟ وهل ينفعُ القولُ أصلًا في الوقت العصيب الذي وصلنا إليه؟ هل يمكنُ لفنّ أن يسائلَ الهويّة؟ أن يتّخذ منها هاجسًا وأن تكون ضالّته التي يبحث عنها؟ الهوية المقرونة بالضياع، والبحث والحيرة.

ليس من السّهل الحديث عن كائنات الشّمعة المتمترسة في اللّوحة. رغم الأحجام التي تحتويها إلّا أنّها من البساطة بمكان يجعلُها قائمة على تنويعات لونيّة متضاربة. التّنويعات على جسارتها ودُربتها هي ذات اللّوحة المنشقّة، بل هي بنيانها الأساسي ومبرّرة وجودها.

تنطلق الأعمال المعروضة من بورتريه ضخم، لو صحّت تسميته ببورتريه، يتدرّج بين الأسود والبرتقالي الدّاكن، ينطلق من زاوية سفليّة على شكل أكتاف لشخص، وما يشبه الوجه غير مكتمل المعالم والّذي تسطّرهُ ألوان متفرّقة بين الأبيض والأخضر والأزرق وبعض الخطوط العشوائيّة. هذا "البورتريه" الضخم ليس من الصّعب إدراجه في مرحلة من مراحل اشتغال الشّمعة باللّوحة، لعلّها تكون المرحلة ما قبل الأخيرة أي قبل انتقاله إلى لوحات أخرى طابعُها أزرق وشديدة التموّج، وهي مرحلة البحر.

فادي الشمعة

اللّوحات الأخرى تقدّم أيضًا هذه الكائنات ولكن بوتيرة وبحديّة أخفّ. الكائنات في أساسها الموحّد والمتشابه لا تُعير أيّ اهتمام بالتّناسق اللّوني أو بترتيب معيّن أو تماسك. كلّ هذا غير متوفّر في هذا القسم من المعرض. ما هو متوفّر يمكنُ حصرُه في سلسلة الألوان الّتي تنحو نحو الخضرة والكثافة والبعد عن الموضوع ونفي أيّ إمكانيّة للسّرد في اللّوحة.

القسم الثّاني من المعرض جاء على شكل مساحات زرقاء بحريّة، يمكن ربط هذه المساحات أو هذه المرحلة من الاشتغال بالمكان الّذي عملَ فيه الشّمعة على لوحاته وهو مقابل لمرفأ بيروت، أي قبالة البحر. دواخل هذه الأعمال هي فضاءات لونيّة مملوءة بدوائر وخطوط موغلة في البساطة. يشعرُ الناظر إليها أنّه ينظر إلى داخل أكواريوم.

تُتيحُ رؤية هذه الأعمال في تقلّباتها وتنوّعها الإنتباه إلى فكرة أساسيّة مفادُها أنّ فنّ الشّمعة قائم على التنقّل من طور إلى طور، المتابع لمسيرته اللّونيّة يعرفُ ذلك. من الأشخاص والوجوه إلى التفّاحة إلى ما درجَ عليه شغله حتّى اليوم. هذا التنقّل على بساطته وفوضويّته ودربته قائم على الاجتراح وليس على الأثر، اجتراح لوحة أو البحث ضمن السياق الواحد عن لوحة جديدة.

في زمن يضيعُ الفرد فيه في ثقافات وأخبار وتفاصيل لا تمتُّ له بصلة، نتوقف مع هذه الأعمال لنبتعد ونفكّر وننظر قليلًا. تلك الكائنات التي أمامنا بكامل تفاصيلها القلقة واللّامستقرة وغير الراضية، تمشي معنا في مسيرتنا وترافقنا في يوميّاتنا المتعبة والمشبوهة، كائنات فادي الشّمعة الغامضة والبسيطة الملطّخة بالأبيض والأحمر والأخضر والأصفر والدّاكن والفاتح، هي الأرضية المثلى لنتحاور مع أنفسنا ولنطرح معها أسئلة البقاء والمصير والحياة.


يستمرُّ المعرض حتى مطلع كانون الأول/ديسمبر المقبل، وبعدها في مشغل الفنّان في بعبدات.