17-يوليو-2019

من المعرض

تتأمّل لوحات تمارا السامرائي ولا تستطيع أن تتجاهل، فور اصطدامك الأوّل بها، فكرة أنّ الرسم عند الفنّانة الكويتية المُقيمة في باريس، ينشأ من مكانٍ صعب. نقول صعب لأنّه ينشأ في الذاكرة، بتضاريسها الوعرة، وتعرّجاتها الحادة التي لا تأتي بالمشهد، أي مشهدٍ مُستعاد منها، كاملًا. لن يكون ما نراه إذًا على سطح غالبية لوحات معرضها الجديد "ما يطفو في الفضاء" (غاليري مرفأ، بيروت) واضحًا. ولن تكون التفاصيل داخل اللوحة دقيقة. هناك تمويه مقصود، أو ضبابية تجعل من اللوحة أقرب إلى لمحة سريعة مرّت في ذاكرة السامرائي فجأة، والتُقطت على عجلٍ بينما كانت تعبرُ الضفة الأخرى منها؛ الذاكرة.

لا تأتي تمارا السامرائي بأيّ تفاصيل قادمة من خارج فضاء المنزل لإنجاز لوحاتها

لا تأتي تمارا السامرائي بأيّ تفاصيل قادمة من خارج فضاء المنزل لإنجاز لوحاتها. ولكنّها في المقابل، لا ترسم المرئيات والأحداث والمشاهد التي تحدث حولها، وإنّما ما حدث يومًا وانتهى فقط، ويومض الآن في ذاكرتها بخفّة شديدة، بين وقتٍ وآخر. نأخذ ما سبق ونُضيفه إلى انطباعنا الأوّل، لحظة وقوفنا وجهًا لوجه أمام اللوحات لأوّل مرّة، بأنّ ما نراه في لوحات السامرائي منذورٌ للغياب، أو مُهيّئٌ لهُ أيضًا. وأنّها، بضبابيتها وعدم وضوحها، تتأكل لتوّها. هكذا، يكون ما تفعله تمارا أقرب إلى محاولة التقاط المشهد بأيّ شكل، ولأجل غرضٍ واحدٍ فقط، أن يُخلّد ويظلّ حاضرًا بعد انتهائه وعبوره إلى الجانب الآخر من الزمن.

اقرأ/ي أيضًا: صورة المرأة السودانيّة في رسومات آلاء ساتر

قُلنا انطباعنا الأوّل لأنّه لن يظلّ ثابتًا. ولأنّنا، بمجرّد وقوفنا أمام اللوحات نفسها من جديد، سوف نشعرُ بأنّ المَشاهد الماثلة أمامنا ماضية ومُنتهية، وأنّ ما تفعله الفنانة الكويتية الآن هو محاولة التقاط زمنٍ هارب، تتقاسمه مع المُتلقّي بحيث يكون شاهدًا عليه، وعلى صحّة ما تستعيده ذاكرتها أيضًا، تلك القلقة التي تنقلُ قلقها مُباشرةً إلى شخصيات اللوحة، دون رأفةٍ أو مُهادنة. هكذا، تكون لوحات تمارا السامرائي تنويعات على فكرة الغياب وحدهُ؛ الغياب الذي لا تُحاول أن تقف ضدّه، بقدر ما تُحاول أن تضع لهُ حدًّا، بحيث لا يعود قادرًا على انتزاع ما يحتشدُ في ذاكرتها من مشاهد لم تخرج عن إطار المكان/ المنزل؛ بحشائشه ونباتاته وجدرانه ومقاعده وأسرّته وأعمدته ونوافذه وخزائنه وزواياه، وكلّ تفاصيله التي ترفع من بناء لوحات الرسّامة.

تكتشف بينما تتجوّل بين لوحات المعرض الُمستمر حتّى الـ 30 من آب/ أغسطس القادم أنّ ذاكرة تمارا السامرائي متورّطة في علاقة غريبة مع الأمكنة التي سكنتها في الماضي، وأنّ ماضيها نفسه لا يمضي. وأنّها ترسم لتستفزّ حوادث وقصص جرت في المكان الذي ترسمهُ: مداخل، غرف نوم، صالات، شرفات. وأنّها لا تُكمل ما ترسمهُ، ولكنّها تتعامل معه، بمزاجية ربّما، باعتباره مُكتملًا.

ذاكرة تمارا السامرائي متورّطة في علاقة غريبة مع الأمكنة التي سكنتها في الماضي، وأنّ ماضيها نفسه لا يمضي

اللوحات، أو بضعها على الأقلّ، تبثّ قلقًا لا تستطيع أن تتجاهله، ولا يبدو من السهل فعل ذلك، حينما تقف أمام غرفة نوم بنوافذ تمتدّ على طول الجدار، أسفلها سرير فارغ، وأعلاه شرشف موضوعٍ عليه بإهمالٍ شديد. وتنتقل إلى لوحةٍ أخرى يتكرّر فيها المشهد نفسه تقريبًا؛ غرفة نوم بنوافذ تمتدّ على طول الجدار، يتصدّرها تمثال لامرأةٍ من دون رأس، خلفهُ تمامًا يتمدّد على سرير غير واضح جسد بشريّ أقلّ وضوحًا من التمثال، وأكثر وضوحًا من السرير. يتكرّر مشهد الأجساد البشرية النائمة في أكثر من لوحة، دون ملامح واضحة، وبغطاءٍ يكشف أنّها أجسادًا عارية، باستثناء جسدٍ واحد وضعته السامرائي فوق سريره بلباس داخليّ.

اقرأ/ي أيضًا: معرض أسامة بعلبكي.. شراكة شخصية مع العزلة

النوم في أعمال تمارا السامرائي جزءٌ من الغياب الذي تُحاول أن تتصدى لهُ باستعادة أمكنةٍ ما يهمّها فيها هو حكاياتٍ وأحداثٍ تستفزّها لتحضر وكأنّها تحدث لتوّها. والأجساد المستلقية على الأسرِّة مُهيّأة للغياب، لا نجد تفسيرًا آخر لاختيار الفنّانة الكويتية أن تكون لوحة واحدة فقط من بين لوحاتها الـ 12 بسريرٍ فارغ، بينما هناك 5 لوحاتٍ بأسرّة تستلقي فوقها أجساد بشرية. كأنّ السرير الفارغ مصير أكثر من كونه جزءًا من لوحة.

 

اقرأ/ي أيضًا:

هجار عيسى ولوحة المجاز

فنّ المهمشين في دولة الفضيلة.. معارك الإقصاء باسم القانون