29-يناير-2019

لا تقدم معاهدة آخن تغييرًا جوهريًا داخل أوروبا أو خارجها (Getty)

 "حين يفلس التاجر يبحث في أوراقه القديمة"، وهو الوصف الذي يصح لمعاهدة آخن الألمانية الفرنسية، ومدلول توقيعها في آخن ذات البُعد الرمزي للكيان الأوروبي، والبُعد التاريخي للبلدين. وفي حين أن هذه الاتفاقية لا تزال موضع نقاش عام على نطاق واسع، في سياق تجديد أوروبا لنذورها، وعلاقتها بالتحولات الأخيرة في القارة، يبقى السؤال عن معنى توقيعها بالنسبة لدول المنطقة العربية.

 كان اختيار آخن، أو أيكس لا شابيل، كموقع لتوقيع معاهدة جديدة للصداقة والتعاون بين فرنسا وألمانيا، محاولة لإنتاج نسخة أفضل للتاريخ بينهما

آخن وميركل وماكرون: الماضي والحاضر والمستقبل 

آخن هي عاصمة الإمبراطورية الرومانية المقدسة، والمعروفة بالفرنسية وبالإنكليزية أيضًا باسم Aix la Chapelle ، وبعد وفاة الملك شارلمان، أصبحت المدينة المركز السياسي للإمبراطورية وعاصمة بلاطها العريق، فيما حظيت بهذه المكانة الأوروبية العريقة، بعد 500 عام من وفاة شارلمان، حيث كانت مركزًا لإبرام اتفاقيات توقف الحروب في أوروبا، كما شهدت المدينة التوقيع على اتفاقيات السلام بين فرنسا وإسبانيا، وعرفت إنهاء حروب الخلافة النمساوية، واليوم، تُمنح جائزة شارلمان سنويًا في آخن لمساهمة الفرد في أعمال الوحدة الأوروبية: ففي عام 2008 مُنحت للمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، وفي عام 2018 إلى ماكرون.

اقرأ/ي أيضًا: ماكرون في القاهرة.. حقوق الإنسان غائبة أمام صفقات التسليح

لذا كان اختيار آخن، أو أيكس لا شابيل، كموقع لتوقيع معاهدة جديدة للصداقة والتعاون بين فرنسا وألمانيا، في الذكرى السادسة والخمسين لمعاهدة الإليزيه، التي وقعها شارل ديغول وكونراد أديناور، بالتأكيد محاولة لإنتاج نسخة أفضل للتاريخ بينهما.

محتوى المعاهدة: هل يتغير واقع أوروبا؟

تتعهد معاهدة آخن الجديدة، وهي ضعف طول معاهدة الإليزيه التي تم توقيعها بين شارل ديجول وأديناور في أوائل الستينات، بتعزيز التعاون بين فرنسا وألمانيا بشأن السياسات الأوروبية. وتعيد تأكيد سياستهم الخارجية وأمنهم وتعاونهم العسكري، وربما الأهم من ذلك كله هو أنها توجه مبادرات جديدة بشأن التعاون عبر الحدود. وتتوخى المعاهدة زيادة التعاون الاقتصادي والبيئي، بهدف إنشاء "منطقة اقتصادية ألمانية - فرنسية باستخدام قواعد مشتركة، ومجلس اقتصادي ومالي فرنسي - ألماني لتشجيع التوافق الثنائي لتشريعاتهما التجارية والمالية.

أهمية المعاهدة في أنها ترسل إشارات جادة إلى أن البلدين على أهبة تامة فيما يتعلق بالمشروع الأوروبي، كما أنها توفر على أساس مرن، شكلاً من أشكال القيادة غير القسرية داخل الاتحاد الأوروبي. كبيان للمبادئ والقيم، يحاول تجاوز الشعبوية، في كل من إيطاليا والمجر وجمهورية التشيك وبولندا، فضلًا عن الشعبوية المتصاعدة خارج أوروبا، في الولايات المتحدة والبرازيل والفلبين على سبيل المثال.

وقد دعا كل من ماكرون وميركل بطريقتهما الخاصة لجيش أوروبي قادر على التصرف بمفرده عندما لا يرغب الناتو في المشاركة. كما قال كلاهما إن أوروبا لم تعد قادرة على الاعتماد على الولايات المتحدة، كما فعلت في الماضي. أثارت هذه الفكرة الغضب والقلق في واشنطن.

ويقول ماكرون عن المعاهدة: "إن أوروبا هي الدرع الواقي لشعوبنا ضد العواصف التي تهب على العالم"، وتعد المعاهدة أيضًا بأن فرنسا وألمانيا سوف "تنسقان عن كثب" في مواقفهما في الأمم المتحدة، حيث تتمتع فرنسا بمقعد دائم في مجلس الأمن، بينما لا تتمتع ألمانيا بنفس الميزة بالرغم من حجمها.

تعددت التعليقات في البلدين حول تجديد النذور الذي ورد وصفه في الغارديان البريطانية بالضعيف، كما أنه يخاطر بإغضاب العديد من الشركاء الأوروبيين الأصغرحجمًا من البلدين، الذين يجاهدون بشكل متزايد ضد ما يرون أنه فرض للأولويات الألمانية والفرنسية في كل بلد، وخاصة عندما يتعلق الأمر بالميزانيات والهجرة.

قليلون حول بروكسل.. كثيرون حول الشعبوية!

أوروبا اليوم ذات مزاج عكر، خلاف ديبلوماسي ليس صغيرًا بين إيطاليا وفرنسا أثبت هذه النقطة، حيث دعا نائب رئيس الوزراء الإيطالي، لويجي دي مايو من حركة الخمس نجوم الشعبوية، الاتحاد الأوروبي إلى فرض عقوبات على فرنسا بسبب سياساتها في إفريقيا "التي تفسد هذه الأماكن" وتشجع الهجرة، وردت وزارة الخارجية الفرنسية باستدعاء سفير إيطاليا في فرنسا تيريزا كاستالدو، وقال وزير الداخلية الإيطالي ماتيو سالفيني في برنامج تلفزيوني محلي: "لن أقبل دروسًا في الإنسانية والسخاء من ماكرون"، مضيفًا "أتمنى أن يكون الفرنسيون قادرين على تخليص أنفسهم من مثل هذا الرئيس الفظيع". فيما لاقت الانتقادات الإيطالية لتاريخ فرنسا الاستعماري نقدًا وسخرية، لأن إيطاليا لعبت دورًا مشابهًا في الشرق الإفريقي في أربعينيات القرن الماضي.

تدخلت مارين لوبان في المشهد على الطريقة الشعبوية لوضع بصمتها الخاصة على المعاهدة، متهمة ماكرون ببيع المناطق الحدودية الفرنسية لألمانيا، واصفة المعاهدة بالخيانة، ومدعية بأن ماكرون سيضع منطقة الألزاس الفرنسية تحت الوصاية الألمانية، وهو ما دفع المكتب الإعلامي لماكرون للرد ببيان.

معاهدة آخن: ماذا تغير في حسابتنا في المنطقة العربية؟

كقائدة للاتحاد الديمقراطي المسيحي، تتراجع ميركل بعد 18 عامًا من العمل، وتضع سلطتها على المحك، كما أضعفت احتجاجات السترات الصفراء في فرنسا شعبية ماكرون، وطالته اتهامات باستخدام القوة المفرطة ضد المتظاهرين، في حين أن السياق الأوروبي يبدو اليوم أقل قابلية للمبادرات الإصلاحية الجريئة.

مع أزمات اقتصادية متتابعة، ونجاح كاسح للشعبوية، تحاول دول الاتحاد الأوروبي الفكاك من كل التزاماتها أمام المهاجرين الآتين إليها من مناطق الصراع في الشرق الأوسط، وهي لا تحاول إيجاد أي حل جذري للمشكلات هناك، بل تكتفي بمكافأة الديكتاتوريات في الشرق الأوسط بمزيد من صفقات السلاح، كما فعلت فرنسا قبل أيام فقط مع نظام عبد الفتاح السياسي. فيما يحاول القادة الأوروبيون مثل ماكرون الافتراض أن المشاكل منفصلة، ويميلون إلى تجزيئها. في هذا السياق، أصر الرئيس الفرنسي في تصريحات نقلها موقع ميدل إيست آي البريطاني، في وقت سابق، على عدم وجود صلة أخلاقية بين وفاة خاشقجي وشراء المملكة العربية السعودية لأسلحة فرنسية الصنع. وقال ماكرون إن مبيعات الأسلحة إلى الرياض، ثاني أكبر زبون له في العالم بعد الهند، لا علاقة لها بخاشقجي، ولا ينبغي على المرء أن يخلط بين كل شيء. الجدير بالذكر أن ألمانيا كانت في أيلول/سبتمبر 2018، قد صدرت بالفعل إلى الرياض مبيعات أسلحة بقيمة 470 مليون دولار قبل مقتل خاشقجي.

وقد قال ماكرون مبررًا زيارته إلى مصر هذه الأيام، في سياق سؤال حول انتهاكات حقوق الإنسان المتهم بها نظام عبد الفتاح السيسي: "أنا أؤمن بسيادة الدول. وهكذا، وبنفس الطريقة التي لا أقبل بها أن يعطيني قادة آخرون دروسًا حول كيفية حكم بلدي، فأنا لا أعطي محاضرات للآخرين".

اقرأ/ي أيضًا: اقرأ/ي أيضًا: تصريحات ماكرون تفتح جرح الماضي بين فرنسا والجزائر

تستخدم فرنسا وألمانيا وغيرها من دول أوروبا مصر ودولاً أخرى في الشرق الأوسط كدرع لحماية أوروبا من تدفق المهاجريين إليها، وكلما ازدادت القاهرة حسمًا في مواجهة هذه الهجرات، تغاضت فرنسا وغيرها عن المعلومات الواردة عن انتهاكات حقوق الإنسان، التي منها على سبيل المثال، تعرض 26 عاملًا مدنيًا في حوض بناء السفن بالإسكندرية، حيث تملك شركة نافال جروب الفرنسية عقدًا بقيمة مليار يورو، إلى محاكمات عسكرية، على خلفية احتجاجات عمالية تخص أوضاعهم، كما تذكر التقارير الإخبارية.

دعا كل من ماكرون وميركل بطريقتهما الخاصة لجيش أوروبي قادر على التصرف بمفرده عندما لا يرغب الناتو في المشاركة

وعلى أي حال، لا تقدم المعاهدة تغيرًا جوهريًا لا داخل أوروبا ولا خارجها، بل ربما هي "حلاوة روح" تعيشها أوروبا كلها بينما تقترب لندن من مغادرة الاتحاد بفوضى عارمة في 29 آذار/مارس المقبل، وتحاول بروكسل أن ترتدي أفضل ما لديها قبل هذه الحفلة، أما بالنسبة للمنطقة العربية، فالبلدان اللذان يدعمان الحكومات الشمولية في المنطقة بغض النظر عن التقارير الحقوقية الدولية، وتستمران في إصدار مزيد من قوانين الهجرة التعسفية بعد استغلال اليمين الشعبوي لتدفق اللاجئين في الداخل، أصبحا أكثر اتفاقًا وتنسيقًا بخصوص هذا النهج.

 

اقرأ/ي أيضًا:

 بريطانيو الاتحاد الأوروبي.. احتجاج متأخر ضد البريكسيت

هواجس الانهيار ترسم خارطة الاتحاد الأوروبي المستقبلية