23-أكتوبر-2018

فرانسيسكو ريبيرو/ البرتغال

كنت أسير مهرولة في طريقي إلى المكتبة، حيث ينتظرني صديق نتشاطر الجو ذاته وألح أن نلتقي هناك لنجدد الشغف بالأدب ونحتفي بالاطلاع على أحدث الإصدارات، وحصريًا على روايات تحصلت على جائزة البوكر العالمية. لقد بت أشعر بقوة الوصل بيني وبين المكتبة، بقطع النظر عن دعوة محمود لي، وكنت شبه واثقة أنها المكان الأقرب إلى روحي.

اختصرت طريقًا مغايرًا لما اعتدت عليه وبدأ ينتابني قلق جارف. تشنجت قدماي وأنا ألعن عقارب ساعتي التي ما فتئت تنحاز إلى الموعد المتفق عليه، ولا تقلع عن هاته العادة في استباق الوقت. الطقس يوحي بهطول المطر فقد بدأت زخاته تنهمر فوق رأسي، والشمس تغيب عن ناظري وتجر ظلي عنوة نحو التلاشي. تذكرت أنني أحمل مظلة في حقيبتي فأنا لا أطيق أن أبتل وأغدو كبلهاء يلتصق فستانها بتفاصيل جسدها الغض، فتهرع للاختباء عند شجرة تتابع شموخها المعتاد بمحاذاة الرصيف، وهو ما لا أحتمل.

أخرجتُ مظلتي من حقيبتي وبدأت أبحث عن هاتفي النقال فلم أجده، وصرت مقتنعة أن هذا اللقاء سيكون متعسّرًا. كنت اعتصر حنقي من المطر بينما قطراته ترطب خديّ كأنها تشفق على سماجتي. التصقت بواجهة محل اعترض طريقي وقد بدأت سخونة تفح من وجهي المبعثر في ضوضاء الشارع الطويل.

- تبًا لماذا يصيبني الارتباك وأعجز عن فتح هذه المظلة اللعينة؟

أنا مصابة بفوبيا المطر وهي تمعن في رشقي برذاذها المخاتل في هذا الصبح الشتويّ، وتصخب أكثر فوق قارعة أفكاري المتوجسة وسخفي.

دلفت مسرعة داخل المحل حتى أحتمي من هذا الطقس الممعن في إرباكي، وتحويل وجهتي عن المكتبة، وأنا التي تعودت احترام مواعيدي، خصوصًا أنني لم ألتق بمحمود منذ فترة طويلة.

من السخرية أنني ألازم نخبة المفكرين، وأنحاز إلى رواد الحركة الأدبية في بلد يعج بأنماط غريبة من رواد الحداثة والتحرّر من القوالب الجاهزة، بعد ثورة مجيدة كما ينعتونها، منمقة كما ينبغي لها أن تكون في التغيير المنشود رغم الفشل الذريع وواقعنا المموّه. وحدي أبدو سليمة النيات في بلد يفجرّ تكتلات قيمه ويصبو لعبثية تجتث عقليته بفائض طوفان يكاد ينسفها تمامًا.

فجأة انقسمت المظلة وأصبحت جزئين منفصلين في يدي، كأنها تتعمد الفرار من تذمري وتجعلني نصفها الغريم، فتجبرني على إيجاد صراط قويم لعلاقتي بالمطر.

كيف سأخرج من هنا ولا حيلة لي وصاحب المحل بدأ يتفطن إلى وجودي العشوائي، وأنا أحاول إيهامه أنني في جولة استكشاف لمحتويات أنيقة ولوحات فاخرة تغطي الجدران بذائقة فنية لا تخلو من الإبهار، وكل ما يجري حولي كفيل بتشتيتي.

- هل من مساعدة يمكنني تقديمها إليك. سيدتي؟

سألني وهو يتجه نحوي برشاقة. كان شابًا في الثلاثينات من العمر يبدو وسيمًا بشعر حريري ينساب فوق كتفه حتى بدى لي انه أجنبي ذو ملامح أوروبية أكثر منها عربية. ارتبكت لكنني تمالكت نفسي حتى يذهب ظنه أنني زبونة مهتمة بمثل هاته التحف المعروضة بشكل أنيق وعصري، وقلت باقتضاب:

- يجب أن أعود بصفة استثنائية، وأنا متفرغة تمامًا من أي التزام يعيق متعتي في اقتناء بعض التحف الجميلة.

- طبعًا على الرحب والسعة في أي وقت، المحل محلك سيدتي.

رد بلباقة وهو يتفحصني ويجعلني مرتجفة على وقع ابتسامته المثيرة.

كدت أنسى موعدي وأنا التي كنت متبلدة المشاعر لتثيرني مجرد كلمات رقيقة من أي كان.

في حين كان المطر يهطل بغزارة ليسدّ طريقي في ذلك الشارع الطويل المسمى بشارع محمد الخامس وسط العاصمة.

فجأة لمحت مظلة سوداء مركونة بجانب الباب الرئيسي للمحل، توقعت أنها تخصّه وخطرت ببالي فكرة أن يعيرني إياها حتى أصل إلى وجهتي ثم أعيدها إليه حين أعود.

سألني مرة اخرى وهو يجتاح أفكاري:

- ما الأمر، تبدين شاردة؟

- أبدًا، فكرت في استعارة مظلتك حتى أصل إلى آخر الشارع وأعيدها وأنا في طريق العودة، لأنني على عجلة ومضطرة للمغادرة الآن.

- آه طبعًا لا مانع لدي سيدتي، وهي فرصة حتى تعودي إلى المحل وتنتقي ما تشائين.

ثم ناولني المظلّة واستدرك قائلًا مع نصف ابتسامة:

- إنها مظلة خارقة على فكرة وستكتشفين ذلك بمفردكِ.

أخذتها مودعة بابتسامة مصطنعة وكان يدور في خلدي أكثر من استفهام.

ما معنى خارقة وهي مظلة عادية لا تبدو مختلفة عن أية مظلة أخرى؟ فتحتها بسرعة لأحتمي من المطر ومن رذاذه الذي لامس وجهي. لكن فجأة شعرت أنني بدأت أرتفع عن الأرض وأصعد إلى فوق والعابرون مذهولون من هول المشهد.

صرخت بأعلى صوتي وأنا أرتجف متمسكة بشدة بعصا المظلة:

- ساعدوني، ليمسك بي أحد.. أرجوكم.

لم يسعفني أحد وأنا أصرخ وأرتفع شيئًا فشيئًا إلى السماء...

تمنيت لو استغنيت عن كل هذا وركضت تحت المطر وعانقت زخاته دون أن اكترث بعلل رافقتني منذ الطفولة.

أليس المطر أنفاس الماء المتكور في رحم السماء؟ وسمفونية تزامنت مع الهطول لتنقر أذاننا بوصلة ربانية منعشة؟ ماذا لو أغرقني المطر بدموع الغيم فأغتسل من لوثة الحياة؟

أغمضت عينيّ وأنا أدعي بأنني في هدنة مع المطر، ثم تمسّكت بالمظلة الخارقة أكثر وركبت الغيم وإذ بي أسقط حتى شعرت بألم عند خاصرتي ووخز بيدي. نظرت من حولي فإذا بي في غرفتي أمسك بتلابيب سريري، فتيقنت أنه كابوس قد مر بي بين أضغاث الحلم، وذلك النقر على نافذتي جرّاء زخات المطر.

ابتسمت وأيقنت فعلًا أنها كانت مظلة خارقة.

 

اقرأ/ي أيضًا:

سماء القلق المسموم

على الأقل.. أو على الأكثر