29-يناير-2019

واجهة المكتبة

على بعد خمسين كلم من الجزائر العاصمة غربًا تقع مدينة البليدة. صبيحة يوم سبت شتائيّ مشمس ودافئ، طرق المدينة مغلقة، حركة المرور مكثفة، العائلات الجزائرية تتسلل إلى مرتفعات جبال الشريعة، ارتدت مدينة الورود ثوب العروس البيضاء من كثافة الثلوج التي تساقطت مؤخرًا على المدينة وأعاليها. أما أنا فسلكت طريقًا آخر إلى وسط المدينة، ساحة التوت، في الزاوية تحت بناية كولونيالية صغيرة حيث تقع مكتبة ومطبعة موقان.

تأسست المطبعة على يد ألكسندر موقان عام 1857، وهي من بين أقدم المطابع على مستوى الشمال الأفريقي والعالم العربي

مساحة صغيرة وأنيقة مربعة الشكل من 45 مترًا مربعًا، ديكور عتيق، هاتف أسود اللون وآلة تسجيل نقود أنتيكا وسط المكتبة، وساعة حائطية كلاسيكية بنية اللون تتوسط الرفوف، وصندوق خشبي بني عريق يؤثث ديكور المكتبة. عبق روائح الكتب يختلط بعطر رائحة الخشب الصندلي ليغطي سقف وجدران المكتبة.

اقرأ/ي أيضًا: مكتبات الآخرين

حركة كثيفة بداخل المكتبة، صغار يلامسون كتب الأطفال، عجوز يتفحص العناوين، امرأة مسنة واقفة متأملة المكان، وكثير من الفضول، إنها عودة مكتبة موقان بعد غلق امتد عشر سنوات تركت فراغًا رهيبًا لدى محبي القراءة والنوستالجيا.

تأسست المطبعة على يد ألكسندر موقان عام 1857، وهي من بين أقدم المطابع على مستوى الشمال الأفريقي والعالم العربي، وهي أيضًا أول مطبعة مدنية أفريقية، حسب السيدة لونيسي سهيلة مسيّرة المكتبة، فالمطبعة كان لها نشاط مدني مستقل عن دور المطابع العسكرية، تقدم خدمات مكتبية وتوفر اللازم من الوثائق المدنية والإدارية خلال الفترة الاستعمارية.

كانت المطبعة في حاجة إلى فضاء آخر، قصد تسويق الكتب المطبوعة والمستلزمات المكتبية، وتنويع المداخيل المالية وتم إنشاء وفتح المكتبة سنة 1909،  في إعلان ميلاد لأول فضاء ثقافي وأدبي على مستوى مدينة البليدة.

داخل المكتبة

في الفترة الممتدة بين 1916 و1944، حمل ألكسندر بولنجي على عاتقه إدارة المطبعة والمكتبة، واستطاع أن يدخل عتادًا حديثًا في الصناعة المطبعية ما انعكس على تطوير ونشر الكتاب. بين عامي 1944 و1987 تولى ألبير بولونجي تسيير المطبعة، فيما تم توكيل وتصريف أعمالها إلى أخته ماري تيريز، ثم لأسباب خاصة تولى ألبير المسؤولية كاملة. من 1990 إلى 1994 تولى تسيير المكتبة السيد هنري لومبر، لتنتهي استغرافيا التسير والإدارة إلى السيدة سهيلة لونيسي بعد إدارة السيدة شنتال لوففر.

خلال 1994، كانت السيدة شنتال لوففر مقيمة في إسبانيا لتجد نفسها الوريثة الوحيدة والشرعية لهذا الإرث العائلي. عرفت الجزائر خلال الفترة حربًا دموية وعنيفة. ترفع السيدة شنتال التحدي وتقبل على المخاطرة والمغامرة وتتجاوز المخاوف. قاومت التهديدات لتسهر على استمرار المكتبة والمطبعة لغاية وفاتها في 2015.

تحتل مكتبة موقان مكانة في وجدان أهالي البليدة وسكانها، وتكتسي رمزية معنوية وديكورًا معماريًا من الزمن الكولونيالي، يحكي المدينة وهي عش الحنين وعشق الكبار وذاكرة الطفولة.

مكتبة موقان لم تكن نقطة بيع كتب فحسب. كانت شخصية المكتبي ألبير بولونجي تتعدى جدران المكتبة، ليكون ضمن الشخصيات المجتمعية في المنطقة، لقد جعل من المكتبة نقطة لقاء ومنارة علم ومنبر للكثير من المثقفين المعتدلين في البلدة، سواء الفرنسيين أو الجزائريين، فقد أبدى حرصًا مستميتًا على استمرار إصدار "جريدة التل" التي صدرت بين 1864 و1964. كما ساهم في تدوين الثقافة الجزائرية والمحلية، إذ أصدار كتابًا عن اللهجات المحلية ومختلف الطقوس المناطقية والوطنية.

جعل ألبير بولونجي المكتبة أيضًا مساحة للقراءة والمطالعة وإعارة الكتب للأهالي الجزائريين، كان الوضع التعليمي غير متوفر لكامل الجزائريين خلال فترة الاستعمار. لذا كان حريصًا على مساعدة الأهالي الفقراء والمعوزين عبر توفير لهم الكتب والكراريس والأقلام ولوازم التمدرس، وكان يدافع على القراءة، ويطلب مختصرات لكل إعارة تشجيعًا منه على المطالعة، وكانت عائلة موقان من أصدقاء الثورة التحريرية، بعد الاستقلال كانت المطبعة المؤسسة الوحيدة التي اعتمدت عليها الدولة الفتية في إصدار الوثائق الادارية والحكومية.

تكمن خصوصية المطبعة والمكتبة أيضًا في الرصيد الأرشيفي الذي تمتلكه من مؤلفات نادرة، فلديها حوالي 4300 من مطبوعات صدرت خلال الثلاثينات والأربعينات والخمسينات من القرن الماضي، وهي مراجع هامة لمعرفة يوميات وأحداث وقراءات تلك الفترة الزمنية.

 تكمن خصوصية مكتبة ومطبعة موقان في رصيدها الأرشيفي من المؤلفات النادرة

تقول السيدة سهلية إن فترة التسعينيات وصعود العنف، كانت من أصعب مراحل حياة المطبعة والمكتبة، فقد كانت شنتال مستهدفة على اعتبار أنها فرنسية الجنسية، والمكتبة كرمز للعلم والمعرفة والتنوير احتضنت النخبة البليدية، أنشأ العمال وحدة المقاومة والحراسة ليلًا ونهارًا، واحتضن أهل الحارة السيدة شنتال ولم تغادر الوطن، رغم تصاعد التهديدات حفاظًا على الإرث التاريخي الرمزي.

اقرأ/ي أيضًا: مكتبات الموتى.. إلى الرصيف سر

بعد غلق دام عشر سنوات، جرت في 19 كانون الثاني/يناير الجاري إعادة فتح المكتبة احتفالًا بمئوية النشأة وترسيمًا لتقاليد المكتبة، وكان أول لقاء ثقافي من تنشيط الأستاذ محمد ساري والروائية ميساء باي والإعلامي الكاتب مصطفى بن فوضيل، وعلى إيقاع تحضير لقاء مع المفكر مصطفى شريف تركت السيدة سهيلة لونيسي في ترتيب آخر رتوشات اللقاء، وكلها عزيمة على مواصلة العمل والتقليد العائلي الثقافي.

 

اقرأ/ي أيضًا:

مكتبة الحلبي في بيروت.. القراءة في جو عائلي

عبّاد يحيى.. صداقة تسوسها الكتب