04-ديسمبر-2015

خالد البيه/ السودان

لقد استغنى العرب منذ عصور عن صناعة الفكر الخاص بهم، مكتفين باستيراده جاهزًا كأي نوع من القماش أو البخور، وبدا ذلك جليًّا بعد انهيار الدولة الأموية، التي ساهم العرب أيما مساهمة فيه. ولقد ساعدت في ذلك –على ما يبدو- عروبة الإسلام، بمعنى أن العلوم كلها التي كانت تنتجها الشعوب الأعجمية كانت تنسب للإسلام الذي كانت تشكل بغداد عاصمته في الدولة العباسية، كما كانت تُكتب وتُنقل باللغة العربية، فيأخذ كلٌّ حقَّه حسب وروده إليه: الأعجمي يصبح وأمته بارزًا في الدولة الإسلامية، فيما يكتفي العربي بتطبيق العلوم والتفاخر بأنها مكتوبة بلغته. 

اختلاف النخبة على دم الضحية دليلٌ واضحٌ على انجرار العقول وراء المصالح التي تحققها مناهجهم لهم

وظل الأمر كذلك قرنًا من الزمان، ما أدى إلى تكاسل العرب وتخاذلهم فكريًا، حتى برز –وفقًا لاعتقادي الشخصي- مفهوم "العقل العربي" بوصفه عقلًا مختلفًا عن عقول البشر، هذا الأمر الذي كنت أرفضه طويلًا واضطررتُ لتقبله في آخر الأمر. فهل هذا العقل يتمتع حقًا  بخصائص تجعله كثيرًا ما يتناقض مع ذاته، أو تجعله بطيء الهضم، وكثير الاستسهال، وسريعًا جدًا في إطلاق الأحكام دون إخضاعها إلى أية دراسة معقدة كانت أم بسيطة؟ 

إن خطورة هذا الكسل الفكري لم تتجلَّ في الأخذ عن الآخرين دون معالجة أو معاينة، فالمجتمع قادر على غربلة الخطوط الفكرية وانتخاب الملائم منها بالاعتماد على كينونته التاريخية، وقصوره الذاتي أمام التيارات، خصوصًا التي تتبنى خطابًا لا يمكن له أن يتمازج ومكوّن المجتمع الثقافي، ولعل التجربة الشيوعية العربية، في فشلها، مثالاً صائبًا. 

لكن هذا الكسل لم يتوقّف عند هذا الحد، إنما تتطاول ليصل إلى تشويه المناهج الفكرية المستوردة، وتكييفها وفقًا لمصالحه، والكارثة المزلزلة أن أصحاب هذا المراس غالبًا ما يكونون من "النخبة"، النخبة التي بدا ضلالها واضحًا في الآونة الأخيرة، ما يمكن أن نعدّه مسوّغًا لضلال الجماهير، فاختلاف النخبة على دم الضحية فيما يخص الثورة السورية، دليلٌ واضحٌ على انجرار العقول وراء المصالح التي تحققها مناهجهم لهم، وعلى أنه ليس هناك معيار مشترك في هذه المناهج يُحتكمُ إليه لتجريم القاتل، ما يعني أنها مناهج ممسوخة وفاقدة للنبيل من قوانين الكون وأخلاقياته.  

يظهر الليبراليون العرب دائمًا على صورة الشرطي الذي يعينه الاستعمار لقمع حريات الأفراد

ويمكنُ سوقُ الكثير من المؤشرات على أن العرب غدوا مصنعًا كبيرًا للفكر المشوّه، ففي الوقت الذي ينهض العالم فيه بالعلمانية والليبرالية، نجد المجتمع العربي يرفضهما أيما رفضٍ، بل ويعدّهما جزءًا لا يتجزّأ من أدوات الاحتلال، ولو أمعنّا التأمل لوجدنا المجتمع على حق، ويعود السبب في ذلك إلى أن منهجية العرب العلمانية  تشبه إلى حدّ بعيد منهجيتهم الدينية، بمعنى أن علمانيي العرب يرفضون الدين، مع أن العلمانية لا يجب أن ترفضه، فإن فصل السلطة الدينية عن السلطة السياسية (العلمانية التي أرادها جون لوك وجورج هوليوك)، لا تعني أبدًا رفضَ الدين، ومقارعته في الميادين، ولكن علمانيي العرب يفعلون ذلك، فيشكل هذا مبررًا للحرب التي يشنّها الدينيون على العلمانيون. 

أما الليبراليون العرب، فيظهرون دائمًا على صورة الشرطي الذي يعينه الاستعمار لقمع حريات الأفراد ما يضع الليبرالية العربية في حيّز التضاد مع الليبرالية التي أرادها بيرتراند راسل، والتي أرادها أيضًا جون لوك بوصفها حرية الفرد. في تقديري، لو كان يمكن لهذه المناهج أن تتموضع على صورتها الطبيعية –وإن كانت مستوردةً- لكنّا وصلنا إلى نتيجة فضلى، ولكنّ "العقل العربي" يحوّر هذه المناهج، ويحرفها عن مسارها، تمامًا كما يحوّر المناهج الدينية، ويجرّها إلى آفة التطرّف دائمًا. 

اقرأ/ي أيضًا:

في الحاجة إلى العلاج النفسي الوجودي