يقدّم مصطفى خليفة في "رقصة القبور" (دار الآداب، بيروت 2016) نصًّا روائيًّا مشغولًا بالهمّ العام، بعد أن قدّمَ روايته "القوقعة" (2008) كحكاية شخصيّة، ربما لم تكن شخصية تمامًا للدلالات العامة التي كساها بها السجن السياسي، لكنها لم تكن لتكون لولا المعايشة الحيّة ليوميّات "سجن تدمر"، أفظع سجونِ عصرنا.
رصدت رواية "القوقعة" يوميّات "سجن تدمر" في سوريا، أفظع سجونِ عصرنا
في العادة، ينطلق إبداع الكتّاب في ما هو شخصيّ، بينما يكونون أقل حريةً في ما يتصل بما هو عام، ذلك أنّ المجال الشخصي يظل يتيح إمكانية التحليق الخياليّ اللامحدود، في حين أن المسؤولية، أخلاقيةً وثقافيةً، تظل تحكم العلاقة مع كل ما يتصل بالشأن العام، هل أضرب عبد الرحمن منيف مثالًا للفرق بين روايتيه "قصة حب مجوسية" و"الآن..هنا- أو شرق المتوسط مرة أخرى"؟
اقرأ/ي أيضًا: رشا عمران وتشارلز سيميك: سوريا بعين واحدة
مصطفى خليفة فعل العكس، بل إنّه قلب الآية، ففي "القوقعة" جعل حكايته الشخصية في السجن السياسي أقرب إلى الوثيقة، أو وثيقة خالصة، ولهذا كثيرًا ما تم الحديث عن قوّة المضمون ولا روائية الشّكل. ولهذا يأتي في إطلالته الثانية على القارئ في نوع من التحدي، ليعيد تعريف نفسه ككاتب أُسيء فهمُهُ، وتم التعامل معه كصاحب نصّ ملتبس بالسّيرة، من أجل هذا كله يكتب في روايته الثانية نصًّا ينم عن معرفة عميقة بأسرار الفن الروائي، ويبني عالمًا لا يشبه سواه، ويتجوّل بين فضاءاته المكانية والزمانية، ليقدم شخصياتٍ من لحم ودم.
خليفة جعل الحكاية الشخصية حكاية عامة في روايته الأولى، وجعل الحكاية العامة حكايةً شخصية في روايته الثانية، هذا ما نراه في تعامله مع توثيق أهوال السجن بصرامةٍ في "القوقعة"، وفي تخييل سوريا أناسًا ومكانًا في "رقصة القبور" التي يطلق فيها العنان لجواد سرده الجامح، فيتركنا في حيرة وشلل كاملين، نهذي ونسأل: هل التاريخ الذي نعرفه، ونردّد فصوله بمنتهى التسليم والتصديق، حدث بهذا الشّكل فعلًا؟ هل حقًا هذا هو الواقع؟ أم أنّ هذا خيالًا جنونيًا يعيد تأليف كلّ شيء؟ تلك هي الأسئلة التي يقترحها الكاتب، ويتركها للمعاينة والفحص لدى القراء والنقاد.
الراوي صحافيّ سوري معارض، يحكي لنا حكايته مع عبد السلام عبد الهادي آل الشيخ، الذي التقاه في جريدةٍ معارضة سريةٍ، وكان شابًا مثيرًا لشدّة جماله، ثم عاد والتقاه في السّجن، ووجده محطمًا للغاية نتيجة التعذيب، فظلّ يساعده ويرعاه ويطببه، إلى أن انتصر على الموت الذي كاد يأخذه إلى المجهول، من هذه الصداقة التي تتحوّل إلى أخوّة، تنطلق الرواية.
لا نعرف اسم الراوي، المعلوماتُ عنه قليلة وشحيحة جدًا، لا يبدو مهتمًا بأن يحكي عن نفسه بمقدار اهتمامه بالحكي عن الآخرين. لسنا متأكدين من ملامح شخصيته، لسنا واثقين منه بالكامل، لكننا نستطيع لملمة تفاصيله من بين الوجوه والشخصيات التي يروي عنها، فهو فيهم ومنهم، ولعل جمع أشلاء شخصيته المتناثرة في الشخصيات الأخرى باتت متعة أخرى.
جعل مصطفى خليفة الحكاية الشخصية حكاية عامة، وجعل الحكاية العامة حكاية شخصية
لا يروي هذا الراوي كل شيء كما فهمه وتلقاه، بل يتنحى في كثير من الأحيان، إذ يضع لنا نقطتين فوق بعضهما البعض، ويترك إحدى الشخصيات تحمل عبء السرد عنه، أو يغيب صوته لنقرأ صوت شخص آخر في رسالة تصله، أو يعود إلى حكاية قديمة فيسردها كما سمعها، ومن ثم يعود بعد ذلك ويقدم سردًا مضادًا ينسفها.
اقرأ/ي أيضًا: حلب.. من التتار إلى التتار الجدد
هذا الراوي مثلنا، نحنُ قرّاءَ الرواية، يحيط بتفاصليها شيئًا فشيئًا، ومثلنا أيضًا لا يعرف كلّ شيء، بمقدار ما يكتشفه معنا، من خلال قراءة شخصية وذاكرة وأحلام وتجربة صديقه وأخيه عبد السلام، في طريقة تستحضر أصواتًا وحيواتٍ وتجارب وخرافات.
عبد السلام آل الشيخ يساري راديكاليّ، ينتمي إلى عائلة ضاربة في القدم، يعود أصلها إلى الصحابيّ خالد بن الوليد، الذي ينتمي إلى بني مخزوم، أحد أهم أفخاذ قبيلة قريش. عائلة الشيخ المتدينة تدينًا صوفيًا، يتداخل في سيرتها الدين والأسطورة، السّلطة والمال والمظلومية، التقاليد الصارمة والتسامح.
تعرضت هذه العائلة على مرّ التاريخ إلى أكثر من عملية إبادة، لكن كان هناك على الدوام شخصٌ ينجو، ليعيد إحياء السلالة، ويعيد بناء بلدتهم التي تحمل اسمهم: "الخالدية". تفترض الرواية أن سلالة خالد بن الوليد قد تعرضت للمحو على أيدي الأمويين، ثم على أيدي الدولة الحمدانية. وهنا يمكن أن نرى أن لا مظلومية طائفية في العمق، فالدولة الأموية كانت تتبنى المذهب السنيّ، في حين أن الدولة الحمدانية تبنت المذهب الشيعيّ. ما يعني أن تقلبات الأزمنة وأهواءها هي التي كانت تتحكم بفعل الإبادة، وليس الدافع الديني بالتحديد. وحين يأتي النظام الذي يؤسّسه المارشال "الاسم الروائي لحافظ الأسد"، يقوم بإبادة العائلة وتدمير "الخالدية"، ورغم أن الراوي يسمي دولة المارشال بـ"الدولة العلوية"، إلا أن الإبادة الأخيرة، التي تتم فيها تصفية عبد السلام لا تجري لأسباب طائفية، بل لأن عبد السلام على رأس حزب معارض أعلن الثورة ضد المارشال ونظامه.
من الناحية التاريخية، يقول ابن حزم الأندلسي في "جمهرة أنساب العرب": "تزوج خالد بن الوليد ابنة أنس بن مدرك الأكلبي الخثعمي فولدت له: سليمان بن خالد الذي قتل أثناء فتح مصر. المهاجر بن خالد الذي قتل يوم صفين وهو يقاتل في صف علي بن أبي طالب. عبد الرحمن بن خالد والي حمص من قبل الخليفة عثمان بن عفان، والذي شارك في يوم صفين في صف معاوية بن أبي سفيان، والذي شارك أيضًا في حصار الأمويين للقسطنطينية بين عامي 674 و678 م. وكثر ولد خالد بن الوليد حتى قيل إنهم وصلوا أربعين رجلًا وكانوا كلهم بالشام؛ ثم قضوا كلهم في طاعون عمواس؛ فلم يبق لأحد منهم عقب".
في "رقصة القبور"، يظهر حافظ الأسد في الرواية شخصًا مخادعًا، مرائيًا، جبانًا
بحسب ابن حزم، أحفاد خالد ماتوا في طاعون "عمواس" الشهير الذي قضى أيضًا على الغالبية الساحقة من الصحابة الذين أقاموا في بلاد الشام، ولم تحدث أية عملية تصفية مقصودة من طرف محدّد، كما أن التاريخ يؤكد على أنه لم يحدث في زمن الدولة الحمدانية أي صراع طائفي، ولم يضطهد الحمدانيون أحدًا، بل غلبت عليهم النزعة العربية. بهذا المعنى يصبح التاريخ الذي يصر خليفة على تقديمه، وتدعيمه بالشواهد، مجرد تأليف، أو كما يقول في المقدمة التي وضعها شارحًا ظروف كتابة روايته: "سمح النصُّ لنفسه بأن يتحدّث عن التاريخ لا كما حدث فقط، وإنما كما كان يمكن أن يحدث أيضًا" (ص 9). هي فرضية روائية إذًا، تقارب الواقع السوري الغارق في العنف والتوحش اليوم، الذي يبدو امتدادًا لعنف وتوحش تاريخيين، كأننا لا نزال نعيش في ذلك الماضي، في ظل غياب مسبّبات الخروج منه، التي عملت السلطة السياسية ممثلةً بنظام المارشال على حجبها، لذا فكل محاولة خروج من هذا المستنقع تتحوّل إلى دخول، أو غرق فيه.
اقرأ/ي أيضًا: عالَمٌ بلا نِساء!
دخل عبد السلام إلى الخُلوة مرتين، الأولى في مطلع شبابه، وقتها أوهم والده الشيخ عبد الهادي بأنه سيتفرغ سنةً كاملة لشؤون الدين، لكنه هرّب إلى الخلوة الطعام وكتب الماركسية، فخرج منها شيوعيًا عميق التكوين. أما المرة الثانية فدخلها، أواخر شبابه، هاربًا مهزومًا كقائد لحزب مغامر، وخرج منها رجل دين كأبيه وأجداده، لكنه سيذهب، مع أول ظهور علني له، مع أتباعه ضحايا مجزرة يرتكبها رجال نظام المارشال.
يظهر حافظ الأسد في الرواية شخصًا مخادعًا، مرائيًا، جبانًا، يكذب على طائفته ويستعملها لتوطيد مجده الشخصي، يساعده في ذلك ضابط نازيّ هاربٌ من ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية. لطالما تحدث الإعلام عن وجود ضابط متورط في الهولوكوست في سوريا هو أليوس بورنير، وفي هذه الرواية، يوظفه الكاتب ليقول لنا إن في سوريا نظامًا نازيًا.
لقي عبد السلام مصير أجداده، تمامًا كما تقتضي السردية العائلية التي تتحدّث عن إبادة وانبعاث، لكن الذي حدث أن ولدي عبد السلام، التوأم، اللذين تم تهريبهما إلى الأراضي التركية، سيعودان شابين يكملان سيرة العائلة، إلا أن تدينهما سينحو منحى تكفيريًا متزمتًا.
مساحة الموت هي التي تتسع، في مقابل تقلص مساحات الأحلام والحب والحياة
اقرأ/ي أيضًا: أصل العالم.. رجل قتلته امرأة نصف عارية
"رقصة القبور" روايةٌ رواياتٌ. ثمة رواية تاريخية تتداخل فيها سيرة أحفاد خالد بن الوليد بسيرة جزء من سوريا، لا سيما مدينة حلب، لكن خليفة لا يصوغ التاريخ في قالب روائي كما هو متعارف عليه، بمقدار ما يقدم إعادة تأليف، أو تخييل للتاريخ. ثمة رواية فاتنازية تتعلّق بالعالم الروحي للشيخ عبد الهادي آل الشيخ، وبحكاية الطبيب هانس الذي أصيب بسحر الشرق، وكان يبحث عن إثبات علمي لنظريته التي تعزف على نظرية دارون، عن أن النوع الإنساني سيصل إلى مزيد من التطور، ولن يكون للبشر شَعرٌ في أجسادهم. ثمة رواية سياسية تتناول سيرة اليسار السوري الذي كان له حضور طاغٍ في الخمسينيات، وكيف تم القضاء عليه تباعًا، لتكون الضربة القاضية على يد نظام حافظ الأسد الذي مسخ من قبلوا بالتحالف معه، وأنزل هزيمة ساحقة بمن ظلوا على الطرف المناوئ. وثمة رواية سيكولوجية، نراها في شخصياتٍ لا تكف عن التحول، كحال أصلان الذي خان أخُوَّة عبد السلام ووشى به لدى المخابرات، ثم قتل نفسه، وكحال مارال، زوجة عبد السلام، التي تحوّلت إلى سحاقية. وثمة رواية أيروتيكية تطرح شعريةً جنسيةً، لا تخلو من العجائبيّ والسحريّ، تجعل من الفعل الجنسي العادي فعلًا خارقًا ومشوقًا.
سؤال أخير: لماذا أسمى الكاتب روايته "رقصة القبور"؟ لأن مساحة الموت هي التي تتسع، في مقابل تقلص مساحات الأحلام والحب والحياة. يموت حب عبد السلام وزوجته الأرمنية مارال. يموت الرفيق مهران، الشيوعي الأرمني الذي تحدى طائفته. يموت الشيخ عبد الهادي المسلم المتسامح الذي قبل أن يكسر تقاليد أجداده حين رضي بزواج ابنه من أرمنية. ويموت "الخوالد" مرة تلو المرة في الرواية.. لأجل هذا يحق للقبور أن ترقص، يحق لها أن تحتكر الفرح، فهي الوحيدة التي تحقق الإنجازات.
اقرأ/ي أيضًا: