14-أبريل-2025
منذ أن بدأت العلاقة بين مصر وصندوق النقد الدولي، غرقت الدولة المصرية في مستنقع من الديون (منصة إكس)

منذ أن بدأت العلاقة بين مصر وصندوق النقد الدولي، غرقت الدولة المصرية في مستنقع من الديون (منصة إكس)

تعرض المصريون خلال الأيام الماضية لزلزال مدو جراء الزيادة المبالغ فيها التي شهدتها أسعار المحروقات، بنسب تتراوح ما بين 11% إلى 40%، وفق ما جاء في بيان لجنة تسعير المنتجات البترولية المشكلة برئاسة رئيس مجلس الوزراء وعضوية وزراء البترول والكهرباء والمالية والداخلية والتموين والتنمية المحلية.

ومنذ تدشين تلك اللجنة عام 2016، في إطار برنامج الإصلاح الهادف إلى ضبط الأسعار بشكل دوري وتدريجي، بما يتواكب مع تقلبات الأسعار العالمية، شهدت أسعار المنتجات البترولية في مصر 13 زيادة متتالية، وصلت نسبتها إلى أكثر من 530% مما كانت عليه قبل 9 سنوات.

فالشعب الذي لم يستفق بعد من أزمة رمضان وعيد الفطر، حيث الأعباء المضاعفة، وبينما كان مشغولًا بمعاركه التافهة التي صٌنعت خصيصًا لإلهائه، ما بين أزمة تجديد لاعب الزمالك، زيزو، ومأزق مباراة القمة بين القطبين، وواقعتي محافظ سوهاج ووزير التربية، إذ به يُصدم وبدون سابق إنذار بموجة جديدة من ارتفاع أسعار الوقود قلبت حياته رأسًا على عقب.

تأتي تلك الخطوة المثيرة للجدل لتنسف تصريحات رئيس مجلس الوزراء، مصطفى مدبولي، في تشرين الأول/أكتوبر الماضي، حين قال إنه "إذا استقر سعر النفط بين 73 – 74 دولارًا للبرميل سيكون لدينا فرصة لعدم زيادة أسعار المواد البترولية بالصورة المخطط لها حتى نهاية 2025"

المثير للتناقض هنا أن هذا القرار جاء في وقت تشهد فيه أسعار النفط العالمية تراجعًا ملحوظًا وصل لقرابة 3 دولارات للبرميل الواحد، وهو ما دفع بعض الدول لتخفيض الأسعار مثل الأردن ولبنان والإمارات وغيرها، وسط تساؤلات مُلحة عن دوافع الحكومة المصرية في الإصرار على السير عكس عقارب الساعة الاقتصادية العالمية.

ومن المفارقات المثيرة للاستغراب والتي تضمنتها موجة الزيادات الأخيرة ارتفاع اسطوانة الغاز المنزلي من 5 جنيهات في 2012 إلى 200 جنيهًا في 2025 بمعدل زيادة بلغ 40 ضعفًا وبنسبة 300% سنويًا وهو معدل غير مسبوق في التاريخ أن تزيد سلعة أكثر من ثلاثة أضعاف في العام الواحد على مدار 13 عامًا فقط، كذلك ارتفع سعر لتر بنزين 80  (الأكثر استخداما من قبل المصريين) من 1.6 جنيهًا للتر عام 2012 إلى 15.5 جنيها في التحريك الأخير، بزيادة وصلت لأكثر 960% .

وتأتي تلك الخطوة المثيرة للجدل لتنسف تصريحات رئيس مجلس الوزراء، مصطفى مدبولي، في تشرين الأول/أكتوبر الماضي، حين قال إنه "إذا استقر سعر النفط بين 73 – 74 دولارًا للبرميل سيكون لدينا فرصة لعدم زيادة أسعار المواد البترولية بالصورة المخطط لها حتى نهاية 2025"، وهو التصريح الذي اعتبره الشارع المصري إيجابيًا ومنطقيًا ويعكس رغبة الحكومة في التخفيف عن كاهل المواطن، ليتفاجأ المصريون مساء الخميس العاشر من نيسان/أبريل الجاري بتلك القرارات الصادمة.

يعكس هذا التناقض بين تصريحات رئيس الحكومة وقرار زيادة أسعار المحروقات، الرضوخ المصري لإملاءات وشروط صندوق النقد الدولي، الذي مارس -ولا يزال- ضغوطه القصوى لإجبار الدولة على تصفير الدعم المقدم للطاقة بشتى مجالاتها، كأحد الشروط الواجب تضمينها في البرنامج الإصلاحي المقدم للحصول على القرض البالغ قيمته 8 مليار دولار.

مصر والصندوق.. 80 عامًا من التبعية

بدأت العلاقات الرسمية بين القاهرة وصندوق النقد الدولي، التابع للأمم المتحدة، بانضمام مصر لعضوية الصندوق في كانون الأول/ديسمبر 1945، حيث تبلغ حصة الدولة المصرية فيه نحو 1.5 مليار دولار، وعلى مدار 80 عامًا مرت تلك العلاقة بالعديد من المحطات أبرزها:

-أيار/مايو 1962.. طلبت مصر أول قرض من الصندوق غير أن المفاوضات وصلت إلى طريق مسدود وتم تجميدها ولم تحصل القاهرة على القرض المطلوب.

-1977.. حصلت مصر ولأول مرة في تاريخها على قرض من الصندوق في عهد الرئيس محمد أنور السادات، بقيمة 186 مليون دولار وذلك لحل مشكلة المدفوعات الخارجية وزيادة التضخم الذي قارب 8.6%. ، لتعلن السلطة السياسية وقتها عن تبنيها سياسة الانفتاح الاقتصادي، الذي بدوره يوفر الضمانات والحوافز ومنح الامتيازات وتهيئة المناخ الجاذب للاستثمارات

وبعد حرب تشرين الأول/أكتوبر 1973 بلغ العجز في ميزان المدفوعات المصرية أرقاما صعبة، رغم المساعدات والدعم العربي المقدم، مما دفع الحكومة المصرية حينذاك إلى توقيع برنامج للتثبيت الاقتصادي مع صندوق النقد خلال الفترة 1977-1981، من أجل تجاوز تلك المشاكل.

-1991، كان الاقتراض المصري الثاني من الصندوق في عهد الرئيس الراحل حسني مبارك، حيث حصل المصريون على قرض بنحو 375 مليون دولار لسد عجز الميزان التجاري.

-1996، طلبت القاهرة قرضا جديدًا من الصندوق بقيمة 434.4 مليون دولار، ورغم قطع الطرفان شوطا كبيرًا في هذا المسار وتمت الموافقة عليه من حيث المبدأ، لكن الحكومة المصرية لم تسحب منه أي شريحة ما اُعتبر لاغيًا وقتها، لتكرر الطلب ذاته نهاية العام نفسه لكنها لم تستطع الحصول عليه لأسباب تتعلق بالظروف المالية التي كانت تمرّ بها مصر في ذلك الوقت.

لكن خلال الفترة بين  1996 ــ 1998 توصلت الدولة المصرية لاتفاق مع الصندوق يسمح لها بالحصول على إلغاء 50% من ديونها الخارجية الرسمية المستحقة لعدد من البلدان الأعضاء في نادي باريس للدائنين.

 -2011 الى 2013، تقدمت مصر خلال تلك الفترة 3 مرات بطلب للحصول على قرض من الصندوق، مرة في عهد المجلس العسكري الذي تولى السلطة مؤقتًا بعد ثورة كانون الثاني/يناير 2011 ومرتان في عهد الرئيس السابق محمد مرسي، وبالفعل تمت الموافقة على قرض بنحو 3.2 مليار دولار، تم طلب زيادته إلى 4.7 مليار دولار، لكن الضغوط التي مورست حينها على الرئيس المصري دفعته للعدول عن تنفيذ برنامج الإصلاح المقدم للصندوق ما أدى في النهاية إلى تعليق المفاوضات.

- تشرين الثاني/ نوفمبر 2016، وافق الصندوق على منح مصر قرضًا قيمته 12 مليار دولار، والذي يعدّ الأكبر في تاريخ البلاد، وذلك على مدار 3 سنوات شريطة الالتزام بالبرنامج الاقتصادي المقدم، والذي كان من أولوياته تعويم الجنيه الذي فقد أكثر من ضعف قيمته في تلك الخطوة.

-حزيران/يونيو 2020، وافق الصندوق على منح مصر قرضًا بقيمة 2.7 مليار دولار من خلال أداة التمويل السريع، وذلك لمواجهة تداعيات جائحة كورونا (كوفيد 19) التي أحدثت اضطرابات كبيرة في خارطة الاقتصاد العالمي.

-2021.. حصلت مصر على قرض إجمالي بلغ نحو 5.4 مليار دولار عبر برنامج الاستعداد الائتماني الذي امتد على مدار عام، وذلك لمساعدة الدولة على سد العجز في ميزان المدفوعات.

-تشرين الأول/أكتوبر 2022.. توصلت مصر لاتفاق مع الصندوق للحصول على قرض بقيمة 3 مليارات دولار، لمواجهة أزمة نقص النقد الأجنبي في البلاد بعد خروج استثمارات أجنبية غير مباشرة بأكثر من 20 مليار دولار في أعقاب الحرب الروسية الأوكرانية وارتفاع معدلات التضخم عالميًا.

وفق الاتفاق كان مقررًا استلام مصر لهذا القرض عبر 9 شرائح على مدار 40 سنوات، بمعدل 347 مليون دولار لكل شريحة، إلا أن القاهرة لم تستلم إلا الشريحة الأولى فقط، فيما أجّل الصندوق صرف باقي الشرائح لما بعد المراجعتين الثانية والثالثة، فيما خرجت تقارير تفيد بعدم التزام بمصر بما جاء في برنامج الإصلاح المقدم.

-أذار/مارس 2024، نجحت مصر في التوصل لاتفاق جديد مع الصندوق بشأن زيادة قيمة قرضه من 3 إلى 8 مليارات دولار، على أن تطبق مصر مجموعة من الإصلاحات الاقتصادية، أهمها الانتقال إلى نظام سعر صرف مرن، وخفض الإنفاق على مشروعات البنية التحتية، وتمكين القطاع الخاص .

هل أخرج الصندوق الاقتصاد المصري من أزمته؟

منذ أن بدأت العلاقة بين مصر وصندوق النقد، والحصول على أول قرض رسمي سبعينات القرن الماضي، غرقت الدولة المصرية في مستنقع من الديون لم تنجح في الخروج منه، ومع كل قرض جديد يتأزم الوضع وتزداد حجم الهوة ومعدل الانهيار بصورة بات من الصعب العودة منها دون خسائر فادحة حولت الاقتصاد المصري من أحد الاقتصاديات القوية في المنطقة إلى واحد من أسوأ التجارب الإقليمية.

وارتفع الدين الخارجي المصري من 1.7 مليار دولار في عهد الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، إلى 2.6 مليار دولار بسبب حرب تشرين الأول/أكتوبر 1973 ثم تضاعفت بعد اغتيال الرئيس أنور السادات عام 1981 ليصل إلى 22 مليار دولار، ليصل إلى مستويات جنونية في السنوات الأولى من عهد حسني مبارك حين بلغ 52 مليار دولار قبل أن يتراجع 26 مليار دولار بعد إسقاط نصف الديون بسبب مشاركة مصر في حرب تحرير الكويت.

ومع اندلاع ثورة كانون الثاني/يناير 2011 بلغ الدين الخارجي المصري 35 مليار دولار، ليعاود الارتفاع مجددًا إلى 43.2 مليار دولار خلال حكم الرئيس محمد مرسي، ثم 46.1 مليار دولار بعد الإطاحة به وتولي الرئيس عدلي منصور السلطة مؤقتًا، لحين انتخاب رئيس جديد.

ومنذ تولي الرئيس عبد الفتاح السيسي المسؤولية في 2014 قفز الدين الخارجي لمستويات غير مسبوقة في التاريخ المصري، حيث بلغ في نهاية الربع الأخير من عام 2024 نحو 155.3 مليار دولار، بعدما تجاوز قبل سنوات حاجز الـ 160 مليار دولار، في تطور أربك كافة الحسابات، الوضع ذاته مع الدين المحلي الذي بلغ  3.815 تريليون جنيه بنهاية العام الماضي ( الدولار يساوي 51 جنيهًا مصريًا).

لم يختلف الجنيه المصري في تهاوي قيمته عما شهده الدين، الخارجي والداخلي، من انهيار كبير، حيث فقد الكثير من هيبته حين كان الجنيه الواحد يساوي 2.5 دولار عام 1970، مرورًا بـ 6.9 جنيهات للدولار الواحد في 2014 وصولا إلى 51 جنيهًا للدولار اليوم، في نزيف غير مسبوق لقيمة العملة المحلية، كان لها تداعياته الكارثية من ارتفاعات جنونية في معدلات التضخم وزيادة الأسعار وإصابة المناخ الاقتصادي والمعيشي بحالة من الشلل التام.

لماذا لم تنجح برامج الصندوق؟

تتعدد الأسباب التي قادت في النهاية إلى فشل برامج صندوق النقد في تحقيق أهدافها في انتشال الاقتصاديات العربية من مأزقها وأزماتها، وهي الأسباب التي تتأرجح ما بين السياسية والاقتصادية والمجتمعية، فيما استقر الخبراء على تلخيص الأسباب الاقتصادية في أربعة مسارات رئيسية: 

-تعامل الحكومات العربية مع قروض الصندوق كـ "مسكنات" لعبور الأزمات الطارئة وليس حلولًا جذرية للمشاكل المتعمقة، وهو ما بدا جليًا في التجربتين المصرية والتونسية.

-اعتماد الاقتصاديات التي تعاملت مع الصندوق، نفطية غير ونفطية، على السياحة وتحويلات العاملين بالخارج، وتصدير المواد الأولية، فيما غاب النشاط الإنتاجي والتفكير في تدشين بنية صناعية إنتاجية تضمن تدفق الاستثمارات والمدخرات للأسواق الوطنية، وهو ما جعلها عرضة لأي هزة في أي وقت دون وجود أرضية ضامنة ومحصنة من أي تقلبات في الخارطة الاقتصادية.

-غياب المساءلة والرقابة على النشاط الاقتصادي، في ظل هشاشة البنية الرقابية في البلدان العربية، تشريعيًا وتنفيذيًا، وهو ما يمكن الوقوف عليه من خلال الترتيب المتدني للدول العربية على مؤشر مدركات الفساد، أو الحرية الاقتصادية، أو عدالة القضاء.

-هشاشة وضعف المنظومة الاقتصادية للبلدان التي تعاملت مع صندوق النقد، وفقدانها للاستقلالية في كثير من خطواتها، وهو ما كشفته أزمتي كورونا والحرب الروسية على أوكرانيا، والتي برهنت بشكل كبير على تبعية هذه الاقتصادات للخارج وفقدانها آليات الصمود والتحدي، مما انعكس في النهاية على الشعوب.

المواطن وحده من يدفع الثمن

منذ أن عرفت مصر صندوق النقد كجهة اقتراض طارئة، كان المواطن المصري وحده من يدفع الكلفة والثمن الباهظ، ثمن السياسات النقدية والاقتصادية الخاطئة التي تبنتها الحكومات المتعاقبة على مدار 8 عقود كاملة، وأضطرت بمقتضاها لطرق أبواب الصندوق لترميم الشروخات الناجمة عن هذا الفشل.

وكعادة الحكومات الفاقدة للخطط والرؤى المستقبلية، كان جيب المواطن هو الخيار السهل لسد العجز الناجم عن فشلها في إدارة المشهد الاقتصادي، فارتفعت معدلات التضخم والبطالة وتراجع مستوى الادخار، وزُج بالملايين من المصريين إلى أتون الفقر والعوز، وشهدت الطبقة الوسطى نزوحا مدويًا نحو الطبقة الدنيا.

فارتفعت معدلات البطالة من 2.2% في أوائل الستينات إلى 6.4% في الربع الأخير من عام 2024، طبقًا لنتائج بحث القوى العاملة الذي أجراه الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء (حكومي) في مصر، رغم التقديرات التي تذهب إلى تجاوز العدد الحقيقي لهذا الرقم الرسمي المعلن.

الفقر ذاته قفز في معدلاته بشكل كبير، من  16.7% عام 2000 إلى 27.8% بنهاية 2015 ثم 32.5% عام 2017-2018، وهي النسبة الأعلى تاريخيًّا، قبل أن تتراجع إلى 29.7% عام 2021، ما يعني أن هناك قرابة 30 مليون مصري دخلهم اليومي أقل من 18 جنيهًا (1 دولار)، علمًا بأن تقديرات أخرى تذهب باتجاه تجاوز معدلات الفقر الفعلية حاجز الـ 50% إذا ما اعتمد التقييم العالمي لنسب الفقر والتي تشير إلى من هم دون 2 دولار يوميًّا، وليس دولارًا واحدًا كما تعتمد الحكومة المصرية.

وتشير كافة التجارب الإقليمية والدولية أن صندوق النقد الدولي ما دخل بلدًا إلا وأفسده، وأرهقه، وأغرقه في مستنقعات الديون والتضخم والبطالة، وسلب منه استقلاليته وسيادته وحوله إلى كيان تابع، مُسلسل بقيود الأقساط والفوائد، فهل تواصل الدولة المصرية تبعيتها لهذا الكيان سيئ السمعة، ذو الأجندات المُريبة، أم تحاول تفكيك تلك العلاقة التي جردتها من ريادتها الاقتصادية حين كانت سلة غلال العالم وقبلة أصحاب المال والأعمال؟