مصر والمراجعة الخامسة لصندوق النقد.. الفقراء من يدفعون الثمن
12 مايو 2025
في تصريح له في السابع من أيار/مايو الجاري قال رئيس الحكومة المصرية، مصطفى مدبولي، إنه سوف يتم عقد المراجعة الخامسة لصندوق النقد الدولي خلال الايام المقبلة، بشأن القرض المتفق عليه والبالغ قيمته 8 مليار دولار، مضيفًا خلال مؤتمر صحفي عقب الاجتماع الأسبوعي لمجلس الوزراء، أن المجموعة الاقتصادية الوزارية درست كل شواغل الوضع الاقتصادي على الصعيدين المحلي والعالمي، وتأثيراتها المحتملة على الاقتصاد المصري.
وأكد مدبولي أن حكومته استعرضت كافة السيناريوهات المختلفة للتعامل مع الأزمات العالمية الراهنة، وأنه جرى عرض كل المؤشرات المتعلقة بالاقتصاد المصري خلال الفترة الأخيرة، والتي أظهرت جميعها اتجاهًا إيجابيًا للاقتصاد الوطني المصري، رغم التحديات الكبيرة التي تواجهها المنطقة، على حد تعبيره.
وتشير التقارير إلى وصول وفد الصندوق فعليًا إلى القاهرة قبل أيام لإجراء المراجعة الخامسة الخاصة، المتوقع أن تحصل مصر في أعقابها على شريحة بقيمة 1.2 مليار دولار، وهو ما دفع الحكومة للإسراع في تنفيذ الكثير من البنود التي تضمنها برنامجها الإصلاحي المقدم، والتي من أبرزها تخارج الجيش وإعادة هيكلة بعض الشركات التابعة له، من بينها "الوطنية للبترول"، "شل أوت"، "صافي"، "سايلو فودز"، و"الوطنية للطرق".
تعد العلاقة بين القاهرة وصندوق النقد التابع للأمم المتحدة من أكثر العلاقات السامة التي ينظر لها المصريون بعين الريبة والشك
ومع كل مراجعة للصندوق يحبس المصريون أنفاسهم ترقبًا لما يُسفر عنه هذا الإجراء الذي في الغالب يدفع ثمنه محدود ومتوسطو الدخل حيث المزيد من التآكل لمنظومة الدعم التي أوشكت على التصفير، التزامًا بالبرنامج الإصلاحي الذي قدمته الحكومة المصرية للصندوق لأجل الحصول على القرض.
وتعد العلاقة بين القاهرة وصندوق النقد التابع للأمم المتحدة من أكثر العلاقات السامة التي ينظر لها المصريون بعين الريبة والشك، في ظل التجارب الإقليمية والدولية الكارثية، فعلى طول امتداد تلك العلاقة البالغة أكثر من 80 عامًا، لم يعرف الاقتصاد المصري خيرًا على أيدي هذا الكيان سيئ السمعة الذي زج بالكثير من الاقتصاديات الدولة إلى مستنقع الإفلاس والفقر والتجويع.
المصريون يحبسون الأنفاس
حالة من القلق تخيم على الشارع المصري في أعقاب الأنباء التي تشير إلى بداية المراجعة الخامسة للبرنامج الإصلاحي، وهي المراجعة التي تأجلت أكثر من مرة بسبب مزاعم الصندوق بعدم التزام الحكومة المصرية بالبرنامج المتفق عليه، وسط مخاوف من رضوخها للضغوط الممارسة عليها من المؤسسة المالية الدولية.
وكان الصندوق قد انتهى من تقييم مراجعتيه الثالثة والرابعة بشكل مجمع في آذار/ مارس الماضي، بنظرة إيجابية في المجمل، وكان بمقتضاها حصول مصر على شريحة قدرها 1.2 مليار دولار، وهي المراجعة التي كان على إثرها قرار رفع أسعار المحروقات بنسب تتراوح بين 11 – 30 % ما كان له أثره البالغ على المستوى المعيشي للملايين من المصريين.
ويٌفترض أن تركز المراجعة الخامسة على عدد من المحاور المهمة والتي تشتبك شكلًا ومضمونًا مع الحالة الحياتية والمعيشية للمصريين، أبرزها تحرير سعر الصرف والذي وصل اليوم إلى أكثر من 50 جنيهًا للدولار الواحد، الأمر الذي كان له تبعاته المؤسفة على مستويات التضخم والأسعار التي لم تعد في مقدور متوسطي الدخل، ناهيك عن محدودي الدخل القابعين في العربة الأخيرة من قطار الفقر والعوز.
التخارج الحكومي من الاقتصاد
هذا بخلاف تخارج الدولة من الاقتصاد ومنح القطاع الخاص الأولوية في توسيع رقعته، أفقيًا ورأسيًا، وهو ما بدأته الحكومة بطرح بعض الشركات المملوكة للجيش للبيع، التزامًا بهذا البند في البرنامج الإصلاحي المقدم، وهي الخطوة التي طالما طالب بها خبراء اقتصاديون حذروا من خطورة وتداعيات الانخراط المبالغ فيه للمؤسسات الأمنية والعسكرية على الاقتصاد الوطني.
وبالفعل خطت الحكومة خلال الأونة الأخيرة خطوات جيدة في هذا المسار، حيث أعلنت عن خروج ما يزيد عن 30 شركة تابعة للدولة والجيش من الاقتصاد، ومنح الفرصة والأولوية لشركات القطاع الخاص، وهي الخطوة التي رغم أهميتها في دفع عجلة الاقتصاد لكن البعض يعتبرها غير كافية وتحتاج لمزيد من الخطوات التالية، إثراءً للمنافسة، وتحفيزًا لرؤوس الأموال المحلية والأجنبية.
وينتاب قطاع كبير من المصريين مخاوف عدة بشأن ما يثار حول إشراك القطاع الخاص في إدارة المؤسسات التعليمية والصحية وتعزيز سياسة الخصخصة في القطاع الصحي والتعليمي، وهو ما يعني تسليع هاتين الخدمتين اللوجستيتين، فمن يملك يتعلم ويُعالج، ومن لا يملك فليس أمامه سوى الانتظار على قوائم مطولة لحين توفير فرصة مواتية في المستشفيات الحكومية والمدارس المكتظة التي تعاني من عجز كبير في المعلمين والإمكانيات نظرًا لمحدودية الموارد.
بيع الأصول
في منتصف تموز/يوليو 2024 أعلنت الحكومة عن إنشاء لجنة تحت مسمى "تصفية الأصول" تابعة لوزارة المالية، وتهدف إلى تحقيق 20 – 25 مليار جنيه سنويًا للخزينة من عائدات بيع بعض الأصول المملوكة للدولة خلال الأعوام المقبلة، وهو التوجه الذي أثار قلق الكثير من المصريين، نخبة وعامة.
المثير للجدل أن الإعلان عن تلك اللجنة التي يتخوف البعض من تفريغها لثروات البلاد جاء بالتزامن مع إبرام صفقة رأس الحكمة مع الإمارات بقيمة 35 مليار دولار، بخلاف تمويلات أوروبية وأمريكية ودولية باستثمارات بلغت عشرات المليارات، الأمر الذي دفع للتساؤل: أين تذهب كل تلك المليارات؟
أصوات عدة حذرت من مخاطر توجه بيع أصول الدولة، خاصة ذات القيمة الاستراتيجية الكبيرة، مثل الموانئ التي مُنحت الإمارات نفوذّا كبيرًا في 7 من أصل 16 ميناء تمتلكهم الدولة المصرية، هذا بخلاف المواقع اللوجستية على رأسها منطقة رأس الحكمة التي تتمتع بموقع جيوسياسي خطير كونها نقطة اقتراب محورية مع جنوب أوروبا، علاوة على عشرات الشركات ذات الربحية الكبيرة والتي يتجاوز حضورها في الأسواق مئات السنين مثل الشركة الشرقية للدخان ومصانع الغزل والنسيح وغيرها.
منهجية إغراق مصر في الديون
ما دخل صندوق النقد الدولي دولةً إلا وأغرقها، هكذا تقول التجارب التاريخية في الأرجنتين والبرازيل والعديد من بلدان آسيا، حيث كانت لسياسات الاقتراض تداعيات كارثية عجّلت بانهيار اقتصادات كثيرة، وأوقعتها في دوامة الاستدانة والغرق في مستنقع الديون، الذي يحتاج الخروج منه إلى ما يشبه المعجزة.
ومنذ أول قرض رسمي حصلت عليه مصر من الصندوق سبعينات القرن الماضي، غرقت الدولة في مستنقع من الديون لم تنجح في الخروج منه حتى اليوم، ومع كل أزمة يصاحبها طرق باب الصندوق للنجاة عبر الحصول على قرض جديد، يشتد الحبل الذي يطوق عنق الاقتصاد المصري حتى بات مخنوقًا ومحاطًا بسياج من الأحبال من الصعب الإفلات منها.
وحوّل الصندوق الاقتصاد المصري من أحد الاقتصاديات القوية في المنطقة إلى واحد من أسوأ التجارب الإقليمية، وهو ما يترجمه منحنى الدين المتصاعد، الذي ارتفع من 1.7 مليار دولار في عهد الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، إلى 2.6 مليار دولار بسبب حرب تشرين الأول/أكتوبر 1973، ثم تضاعفت بعد اغتيال الرئيس الراحل أنور السادات عام 1981 ليصل إلى 22 مليار دولار، حتى وصل إلى مستويات جنونية في السنوات الأولى من عهد حسني مبارك حين بلغ 52 مليار دولار قبل أن يتراجع 26 مليار دولار بعد إسقاط نصف الديون بسبب مشاركة مصر في حرب تحرير الكويت.
ثم زاد الوضع سوءً مع اندلاع ثورة كانون الثاني/يناير 2011 حيث بلغ 35 مليار دولار، ليعاود الارتفاع مجددًا إلى 43.2 مليار دولار خلال حكم الرئيس محمد مرسي، ثم 46.1 مليار دولار بعد الإطاحة به، ليصل بنهاية نهاية الربع الأخير من عام 2024 نحو 155.3 مليار دولار، بعدما تجاوز قبل سنوات حاجز الـ 160 مليار دولار، في تطور أربك كافة الحسابات، الوضع ذاته مع الدين المحلي الذي بلغ 3.815 تريليون جنيه بنهاية العام الماضي ( الدولار يساوي 51 جنيهًا مصريًا).
ونتيجة منطقية لسياسة الاقتراض وإغراق مصر في الديون تهاوت العملة المحلية (الجنيه) لتصل إلى أسوأ مستوياتها في تاريخ المصريين، لتتهاوى من 2.5 دولارًا مقابل الجنيه عام 1970، مرورًا بـ 6.9 جنيهات للدولار الواحد في 2014 وصولًا إلى 51 جنيهًا للدولار اليوم.
وكالعادة يحاسب المواطن المصري على كافة تلك المشاريب، ويسدد وحده فاتورة الاقتراض المتصاعدة والتي تبتلع أكثر من نصف ميزانية الدولة، فيما يُقسم النصف الباقي لخدمة وتلبية احتياجات الملايين من المصريين وسط زيادات مقلقة في معدلات الفقر بعد أن تأكلت الطبقة المتوسطة التي تُدفع دفعًا نحو الطبقة المتدنية.