10-يناير-2016

جوزيف عيد (أ.ف.ب/Getty)

أن تصدر صحيفة "البديل" المصرية بعد إعدام الشيخ الشيعي، نمر النمر، بمانشيت ضخم عن وقاحة آل سعود، وتنشر الملف الدموي الأسود للعائلة العابرة للجرائم والمذابح والأشلاء والأرواح، فهذا رد فعل لا يمكن أن يكون غريبًا من صحيفة مموّلة من إيران ولها موقف معارض -معارضة في حدود المقبول- من النظام المصري تنقلب إلى عداوة لكل أصدقائه وحلفائه.

ليست مصادفة أن الله نسج العلاقات بين إيران والدول التي تحف مصر بالسلام والرحمة والتبرعات والمشاريع القومية (الإمارات والسعودية) من عداوات ودماء وبيانات شجب وعند واستنكار وعقوبات في مجلس الأمن، وبينهم وبينها "كيد ضرائر" ليس وليد خلاف سياسي عابر، أو مصالح متقاطعة إنما ترجع لأكثر من ألف سنة. إنها ترددات تمثل لحظة الذروة في رواية طويلة، بدأت بمشهد سقوط "الحسين" من على فرسه، وتساقط جيشه القليل أمام جند يزيد بن معاوية. ولن تنتهي بإعدام نمر النمر، فلا تزال القلوب معبّأة بالغل التاريخي، والغضب الذي سيحرق الجميع.

إحدى مطبوعات القاهرة صدرت في طبعتها الأولى تقول إن قنابل شياطين الحرس الثوري الإيراني تنفجر في السعودية

وللصراع بقية تقع في مساحة غامضة يصعب على كتاب السيناريو أن ينسجوا خيوطها أو يتخيلوا نهايتها. فلا أحد يقدر على توقع ما ترتب له "مدافع آيات الله" (على حد قول الكاتب محمد حسنين هيكل) أو تدبره سيوف وجماجم آل سعود. دعونا نكتفي بالنكتة التي تقول إن سنيًا اشتبك مع شيعي في دولة أجنبية، ووقعت خناقة في الشارع، فتوقف أمامها البوليس وقادهما إلى قسم الشرطة. وخلال التحقيقات سمع الضابط قصة واحدة لها نفس الأبطال بروايتين عن سبب المشكلة بينهما، والأبطال هم: عليّ ومعاوية والحسين ويزيد. فأمر المحقق باستدعاء الأربعة المذكورين، قالوا له إنهم ماتوا قبل 1300 سنة. فأمر بإيداع السني والشيعي مستشفى المجانين!

مقدمة طويلة تلخص جنون العلاقات والخلافات في العالم، الذي يتوقف أمامه بالدراسة والنقد لا يخرج قبل أن يقول سبحان الله، أو يغرق فيه للأبد. فلا يزال آلاف يدفعون ثمن حادثة عمرها أكثر من ألف سنة بين أمراء المسلمين، ولا تزال ماكينات المطابع تدور على صحف تضخ دمًا جديدًا في عروق الاشتباك، وتنفخ الروح فيه مرة أخرى.

في اليوم التالي لإعدام "عدو الإسلام"، نمر النمر، كما ذكرت الصحف الموالية للسعودية، أو اغتيال "الداعية الشيعي"، نمر النمر، حسب صياغة الصحف المموّلة من طهران، انتظرت الصحف المصرية أي رد فعل طبيعي من إيران لكي تدير مدافعها صوب دولة الملالي، وتضرب.

إحدى مطبوعات القاهرة صدرت في طبعتها الأولى تقول: "قنابل شياطين الحرس الثوري الإيراني تنفجر في السعودية"، وأخرى اعتبرت رد فعل طهران "بجاحة"، وحملت مانشيت يقول: "العرب يحاصرون الشيطان الإيراني".

هل تريدون من دولة قتل أحد رجالها زورًا وسِفاحًا أن تدفن رأسها في الطين؟ لا تنتظروا إجابة، فلا أحد يستطيع أن يصمت أمام مملكة سفاحة تصدّر الإرهاب للعالم كله، وتحتكر الكعبة، ولا طير أبابيل يرميها بحجارة من سجيل الآن. زمن المعجزات انتهى! الصحف المصرية لها رأي آخر، اليوم السابع والمصري اليوم والوطن وغيرها اعتبروا إيران شيطانًا ينشر دعوته ويتهجم على السعودية في دارها (اقتحام السفارة الإيرانية في طهران) على طريقة الأفلام الكوميدية "إنتم ازاي تتهجموا كده علي الناس في بيوت الدعارة؟!".

الحياة اللندنية والشرق الأوسط تستطيعان أن تبررا الموقف المعادي لإيران على صفحاتهما الأولى أيضًا، كلاهما سعوديتا المنشأ والطبعة تحصلان على تمويلهما من أمراء آل سعود. موقف له ما يبرره ووراءه رصيد طويل من الدولارات وبيوت الصحفيين المفتوحة على حساب العائلات المالكة. فالصحفي يضطر أحيانًا إلى خدمة أغراض من يدفع له لأن الصحف لا تمول بأموال الزكاة والصدقات وصناديق النذور!

الأخبار اللبنانية صدرت بمانشيت "آل سعود ولاة داعش"، مع صورة بوستر لنمر، ثم في اليوم التالي حملت عنوان "جنون السعودية يقلق العالم". نحن أمام صحيفة تمارس تعريفًا دقيقًا للمهنية في الصحافة، فهي تحمل سياسة تحريرية متسقة مع ملاكها "حزب الله" الشيعي عدو السعودية الأول في لبنان، والصحف في لبنان صريحة في تجارتها ولا تدّعي الشرف، تكاد تقول: "نخدم من يدفع، وكله ابتغاء وجه الممول ومرضاة الصحافة".

الصحافة لا بد أن تكون على يسار السلطة وإلا تحوَّلت إلى دكاكين تبيع المواقف

أما الصحف المصرية التي لا يدخل حساباتها البنكية وجيوب رجالها ريال سعودي واحد... لماذا دخلت معركة غرقت في غبارها بلا ثمن، مخالفةً عقيدتها الأساسية التي تؤيد كون السعودية دولة وهابية، صحراوية، مصدرة للتخلف والإرهاب، والجهالة والجاهلية، وركعت على سنة آل سعود، ستقول: "لأن الطرف الآخر إيران الثالثة علي العالم في أحكام الإعدام الزور.." سأقول: السعودية الثانية.

ستقول: السعودية حليف ولا بد أن نقف معها في شدتها، وعداوة إيران موقف الدولة المصرية الآن؟ سأقول: دع حسابات الحكومات للحكومات. لم يطلب من الصحافة أن تدخل المعركة لحساب أي طرف، كان مطلوبًا منها فقط تبني موقف واحد من الدولتين "لا دفاع ولا هجوم"، وعلى الله قصد السبيل. لكن الجرائد باعت عقيدتها وإيمانها (المفترَضين) ضد أعداء الحياة وطيور الظلام مجانًا، ودافعت عن آل سعود.

قد يخرج أحد ويدافع: لا بد أن نكون مع الموقف المصري، نقف على خطوطه مهما خالف خطوطنا، فهذه مسألة أمن قومي. سأقول: الصحافة لا بد أن تكون على يسار السلطة، أي سلطة، وإلا تحوَّلت إلى دكاكين تبيع المواقف والآراء والدفاع والهجوم برخص التراب في أرض الرسالات والمعجزات... والمخابرات!

اقرأ/ي أيضًا:
إعلام اليسار السوري من أيام "المناشير"
لا يا شيخ علي.. الرسول من برج "القوس"