12-نوفمبر-2015

الملصق الإعلاني لمعرض معرض تحيا مصر الذي نظمته صحيفة الأهرام

درست الصحافة بجامعة القاهرة، ولا أزال أتعلم، في محاضرات التحرير والأخلاقيات، قال لي المنظّرون: لا تمدّ يدك لمصدر، لا تتسوّل الخبر، لا تطلب إعلانًا، حافظ على أخلاق المهنة، لا تكن صاحب اليد السفلى، لا تقبل هدية، الجأ للمصدر لكي يمنح معلوماتك الشرعية لا لكي يضيف إليك، صوّر له أنك أقوى منه، أنت تعرف أكثر.

القاعدة الأهم في تجربة الحياة.. أن تعرف القاعدة ثم تكسرها؛ لأنه لا قاعدة تستحق أن تبقى

حين يقول زميل لم يدرس الإعلام في الجامعة: "الدراسة لا تضيف للصحفي، الصحافة موهبة، وفكر، ورأي، وموقف"، ثم ينتظر ردًا، أقول له: "الفرق بسيط جدًا، أنت لا تعرف القاعدة، لا تعرف ما الذي يجب أن تفعله، ولا كيف تفعله، أنا درست القاعدة جيدًا، وأعرف كيف أكسرها وأخرج من جحيم القواعد بقواعد جديدة وطرق أخرى". القاعدة الأهم في تجربة الحياة.. أن تعرف القاعدة ثم تكسرها؛ لأنه لا قاعدة تستحق أن تبقى. 

في الجلسات الخاصة، أعود لأقول إنني لم أستفد أي شيء من دراسة الصحافة.. المهنة متوتِّرة، وما درسته في المناهج الصماء لأساتذة الجامعة الغيورين على الصدق والمهنية والأخلاق والركاكة والكتب القديمة وسوء العرض والتقديم والذوق الفاسد، والأفكار المستهلكة، والبقاء على الحدود دون مواجهة على الورق.. وأضيف: "يوم واحد في مطابخ الصحف بعشرة سنوات دراسة في الجامعة". في مطابخ الجرائد، ومع أول تعامل مع مصدر جاء بربطة ورق، يريد أن يبتزّ بها سفير دولة، وقابلته في كافيه بالقاهرة، اعتبر أن أبسط ما يقدّمه لي مقابل أن أكون رصاصة في مدافعه الموجّهة إلى "الدبلوماسي الشهير" أن يدفع حساب المشاريب.. رفضت.. دفعت المشاريب، وقلت له: "عيب.. الأدب أن أدفع الحساب لي ولحضرتك، لأن القارئ يدفع لنا الحساب إحنا الاثنين".

القاعدة الأهم في الصحافة مررت بها داخل قاعات كلية الإعلام، وفي غرف الصحافة المغلقة معًا.. أن القارئ يدفع المشاريب لنا جميعًا؛ فلا تركع لمصدر، ولا تمدّ له يديك طالبًا إعلانًا أو "أوبن بوفيه" في حفل ضخم، أو خبطة صحفية تمنحك "شلوط لفوق"، ادفع له، وعامله رأسًا برأس، وحين تحاوره لا تمسح حذاءه، احرجه واجلده، ولا تحترف المواجهة على الورق داخل مكتبك المكيّف فقط. ليس دورنا أن نمسح أحذية المصادر ولا ممولي الصحف، ولا رؤساء التحرير، ولا الرتب الأمنية، ولا رجال الأعمال، ولا الوزراء، لا أحد يملك للصحفيّ شيئًا، لا ضرًا ولا نفعًا.. أنت سيد نفسك حتى لو اعتبر أحدهم نفسه كفيلك. 

درس مهني وقلم على غفلة لصحيفة "الأهرام"، والزملاء الذين قرروا فجأة أن يصوروا مصر كراقصة بذيئة ومبتذلة تقدم "نمرة" لمن يدفع أكثر، أو أرادوا أن يجعلوا المصريين شلة رقّاصين على أغنية "تحيا مصر" لرجل خليجي يرتدي غترة -يبدو إنه دفع حساب المشاريب مقدّمًا- بلا سبب، ولا داع، ولا أي مبرر. ما القصة؟.. من حقك أن تسأل؛ فالمقدمة تصلح لـ"مذكراتي في الصحافة" وليس موقفًا عابرًا.. سأقول لك إن مؤسسة "الأهرام" بما لها من تاريخ – ليس حاضرًا ولا مستقبلًا ولا شكلًا ولا موضوعًا – نظمت معرض "تحيا مصر" احتفالًا بانتصارات وإنجازات مصر (من 10 إلى 25 تشرين الثاني/نوفمبر الجاري).

لا تسأل ما هي إنجازات وانتصارات مصر موضوع الاحتفال. هذا جزء من المشكلة، أما المشكلة الأكبر في اللوحة الترويجية للمعرض، التي صورت مواطنًا خليجيًا يصفق، وأمامه مواطنون يرقصون بجوار العلم المصري. اللوحة تعني أن كل إنجازات مصر تتمثّل بالرقص لرجل خليجي يحبّ الحياة، ويستمتع بتفاصيل صغيرة.. أن نرقص له رقصة الوطن مثلًا!

قررت "الأهرام" أن تصور مصر كراقصة بذيئة ومبتذلة تقدم "نمرة" لمن يدفع أكثر

اعتذر أحمد السيد النجار، رئيس مجلس إدارة "الأهرام"، عن "اللوحة"، ألصق الجريمة برسام كاريكاتير طائش في المؤسسة أحب "عمل الواجب بزيادة".. لأن الاتجاه العام يقتضي أن تفعل ذلك. النجار زميل وقفت الجماعة الصحفية كلها بجواره ضد طغيان السفير السعودي، أحمد قطان، في "معركة الكؤوس" الشهيرة داخل منزل السفير الجزائري نذير العرباوي، بعد حوار الاتهامات الطائرة، والكلمات الطائشة الذي انتهى بطرده من العشاء "لأنه أقلّ من هيكل". لكنه الآن محاط بالزيف والكسرة والإهانة في مكتبه؛ إذ ربما يكون غير رافض لفكرة "الكفيل" في ذاتها، لكنه يرفض "كفالة" السعودية تحديدًا.

يحتاج النجار أن نراجع معًا ما نتعلمه في محاضرات "التحرير الصحفي" ومطابخ الصحافة: "لا تطلب إعلانًا، حافظ على أخلاق المهنة، لا تقبل هدية، لا تكن صاحب اليد السفلى، لا ترقص للكفيل".

اقرأ/ي أيضًا:

النظام المصري.. شكرًا للمثقفين!

موسم ترويع الإعلام في مصر