06-سبتمبر-2016

الشاب المصري أحمد مدحت

يعتبر داريو فو أحد أهم ظواهر المسرح الإيطالي، وسر تألقه الدائم كان في غزارة إنتاجه وكثرة الأحداث التي مثلها وعاصرها في حياته فكان مسرحه دسمًا ثريًا مليئًا بالعناصر الجديرة بالدراسة والتحليل.

كان فون الحاصل على جائزة نوبل عام 1997 وخاصة في مرحلته المتأخرة يكتب مسرحه وفقًا للأحداث الواقعية التي تحدث فيعيد تعديل نصوصه يومًا بيوم حتى سمي مسرحه "مسرح الصحيفة". أما أهم المسرحيات التي أود الحديث عنها في هذا السياق فهو مسرحية "موت فوضوي صدفة" التي ألهمني الحديث عنها الباحث المهم "تامر وجيه".

على منهج داريو فو في إضفاء التفاصيل غير المنطقية العبثية للرواية الفاسدة لإثبات فسادها، فإن أحمد كان في بيت الدعارة قبل أن تفاجئه الشرطة فيجرب تأثير آلة حادة على رأسه

في مقدمة المسرحية يورد المترجم حاتم عقيل تصريحًا عن فو يقول فيه:
"إن مصدر تجارب فو العبثية في "موت فوضوي صدقة" كان التغطية الصحفية لموضوع وحشية سلوك الشرطة في الصحف الإيطالية أثناء كتابة المسرحية. يقول فو نفسه: كنت مشغولًا بقضية العدالة. لقد لاحظت أنه فعلًا إجراميًا قد ارتكبته الدولة، ولكن الناس كانوا يتقبلون نتائج التحقيقات الرسمية بهدوء. وعندما أضفت شيئًا من العبث إلى الموضوع، أصبحت الكذبات واضحة جلية. فمثلًا لو أن شهادة الشرطة كانت صحيحة لكان من المفروض أن يكون للجاني ثلاثة أرجل ويستخدم المهرج المجنون ليؤسس لهذا الوضع، ومن ثم يصبح العبث شكلًا من أشكال التفكير المنطقي الذي يعتمد على المفارقة.

اقرأ/ي أيضًا: الدولة الحصينة والمجتمع العاري

تقول الرواية الرسمية للشرطة المصرية عن الطالب "أحمد مدحت" إنه تم القبض عليه في "شقة دعارة" وقفز من شباك الطابق الرابع وتوفي ونقل للمشرحة. حتى وإن كان أحمد نفسه لا يعرف عن قانون ممارسة الدعارة فإن القانون يحميه بصفته ذكرًا، فهو يتحول إلى شاهد وإذا أفاد الشاهد أن التي يمارس معها الزنا كانت رفيقته أو صديقته وأنه لم يدفع مقابلًا ماديًا لها فسيتم إخلاء سبيلهما، وذلك وفقًا للقانون المصري لمكافحة البغاء رقم 68 لسنة 1951، الذي جعل من أهم شروط جريمة الدعارة أن تتم العلاقة بين الرجل والمرأة نظير مقابل مادي.

ننتقل للنقطة الثانية وهي الحالة التي وُجد عليها جثمان الطالب أحمد مدحت والتي تفيد فيها شهادة والده بأنها كانت بكامل ملابسه في المشرحة وثُبت ذلك في محضر النيابة ووجود إصابة في رأسه وعلامات كوي في يده.

وعلى منهج داريو فو في إضفاء التفاصيل غير المنطقية العبثية للرواية الفاسدة لإثبات فسادها، فإن أحمد كان في بيت الدعارة قبل أن تفاجئه الشرطة فيجرب تأثير آلة حادة على رأسه، وتأثير الكي بالكهرباء على بطنه ويديه كنوع من التطهر الجسدي بالتعذيب كما ورد في فلسفات التطهر العقائدي عند الشعوب القديمة وأنه يمارس ذلك في مكان يتسم بالنجاسة كنوع من المقاومة النفسية لأجواء المعصية الربانية. بلا بلا بلا!

في عصر يوم الثاني عشر من كانون الأول/ديسمبر من عام 1969، انفجرت قنبلة داخل "المصرف الوطني الزراعي" في قلب مدينة ميلانو ما أسفر عن مقتل ستة عشر شخصًا وجرح ثمانين آخرين وكان من نتائج التفجير أن أُطلقت حملات فورية من قبل الشرطة لذوي النشاط السياسي من اليساريين والمتعاطفين معهم وبعد تلك العملية بفترة وجيزة اقتيد عامل سكة حديد من سكان ميلانو اسمه "جيوزيبه بينيلي" إلى مقر القيادة المركزية لاستجوابه وقد أُبقي في السجن مدة ثلاثة أيام قامت الشرطة باستنطاقه بوحشية وعلى نحو متواصل سقط العامل من نافذة في مقر الشرطة بالدور الرابع ومات على الفور وأعلن رسميا موت بينيلي كان انتحارًا وأنه اعترف بالذنب.

خلال الفترة التي تلت موت بينيلي تعرضت الشرطة الإيطالية إلى العشرات من حالات التخبط والعشوائية أثناء التحقيقات أثبتت محنة قياداتها. اليسار المستقل "القوي" وقتها استطاع بعد الاف التقارير والوثائق والشهادات أن يثبت أن التفجيرات التي حدثت وقتها في بياتسا فونتانا "موقع البنك الزراعي" كانت من تدبير وتواطؤ عدة جهات منها المؤسسة الفاشية الدولية شبه العسكرية والصناعيين الكبار وغيرها.

الشاهد أن مشاهد انتحار المذنبين تم هرسها في عشرات المشاهد السينمائية التمثيلية المملة والممتعة منذ أوائل القرن الماضي، وحجة المتهم المضطرب عقليًا وكل حجج "البليد" الذي تستخدمها نفس الدولة قامت فيها ثورة لأن شابًا اسمه خالد سعيد تم تشويهه من قبل فردين من الشرطة هي حجج مكررة ومملة.

الشاب الذي كان ينتظره مستقبل واعد وُلد في بلد غير واعد وغير مبال، المهم فيه ضبط و"تظبيط" محاضر الشرطة حتى تتسق مع الأحكام النهائية التي تصل إليها وكأن العدالة في بلادنا عمياء بالفعل تتبع في خطى محايدة الحق والحقيقة!

اقرأ/ي أيضًا:
خزائن مصر يصيبها الخوف من الإفلاس
أزمة لبن الأطفال بمصر: الوجه القبيح لبزنس الجيش!