04-مارس-2021

لوحة لـ إدوارد هوبر/ أمريكا

اثنان يكتبان فيمحوان ثم يُكرران ذلك مرات ومرات، الكتابة فعل خلق ومَحو تشبه أثر قرارات الإنسان وهو يَخُطُّ مشهد حياته. نسلك معهما درجات المكتبة الكبيرة، يختاران طاولة تتوسط قاعة الدراسة ثم يضعان عليها: كتبهما، أقلامهما الرصاصية بألوان "النيون" وأجهزة اللابتوب المُزينة بزخارف غريبة، شيء يُعبر عن ميول الجيل الناشىء كأغانيه غير المفهومة أيضًا. تختلس الفتاة نظرة سريعة حولها، ترفع كوب القهوة من الحقيبة، ترشف منه ما استطاعت ثم تُعيده بسرعة، يُؤنبها لذلك الفعل، إلا أنها تستهوي تحدي القواعد وكسرها تقول له "قليل من الشقاوة لا يؤذي المَجرة" أما هو فقد احمرّت عيناه تعبًا من نظارته الطبية "الفاشلة" كما يصفها وذاك الصُداع الذي لا ينتهي من رأسه بسببها، بعينين مُجهدتين وبصوت ضَجِر قد خالطه بعض التذمر من التشتت المُستمر لحديثهما، أخبرها أنه اذا لم ينتهيا من عملهما اليوم فلن يأتي أبدًا، تعرف أنه يكذب لكنه شديد الحساسية لإنهاء مهامه في وقتها.

حَسَنٌ، المشهد جاهز، لنسلط الضوء عليهما أكثر: أيهما أفضل الإضاءة الصفراء أم البيضاء؟ اجعلها صفراء تشبه اضاءة المكتبات القديمة، لا ليس هنا يا علي، هناك حيث يجلسان في منتصف القاعة، اجعلها ساطعة أكثر، نعم! هكذا ممتاز.... هوشششششش ليسكت الجميع الآن ولنستمع إلى حديثهما:

"- لنختر مشهدًا افتتاحيًا، هيا! شيء ما يليق بظهيرة ماطرة مثلًا؟

- لنجعله صباحًا، يتخلله بعض المطر الشديد وصَبيّة تمشي بسرعة، تنظر إلى ساعتها مرة وإلى الطريق مرات، لا حافلة تمر بالجوار..

- ... إذا استمرت بالتأخر عن العمل سيقتطع صاحب العمل من راتبها الذي بالكاد يصل إلى الحد الأدنى للأجور، كانت تود إخباره مرات بأن لو يزيدها مئة شيقل أخرى لربما استطاعت أخذ وسيلة نقل إضافية والوصول إلى مكان العمل باكرًا، لكن الكبرياء يمنعها.

- انظري إلى عينيها كيف ينتشر العجز فيهما.

- يا إلهي، كل هذا العجز ولا يلحظه أحد!

- لقد تبلّلت بالكامل، لم تحاول حتى تحاشي المطر الساقط عليها، لو نوقف هطوله، لقد تجمدت المسكينة.... اووو لقد توقف المطر، لكنها لا تغادر مكانها، غريب، لماذا؟

- ها هي تتحرك، انظر! تقطع الشارع، لا تلتفت يمينًا أو شمالًا، لم يسترعِ انتباهها بكاء الطفل الذي تحتضنه أمه بقوة خوفًا من مزاريب الدكاكين أو الحُلم الذي يُعشعش في عيني خاطبَين مَرا بجانبها وهما يُحلقان فوق غيمة، أو نداء بائع القهوة المُتجول الذي اعتادت الشراء منه صباحًا حتى رائحة الخبز الساخن التي تذكرها بدفء البيت لم تنجح في استمالة عينيها.

- لقد عبرتهم جميعًا كأنهم سراب. تتوقف الآن أمام دكان الزهور الذي يفتح باكرًا.

- تعجبها حُمرة الجوري وصُفرة التوليب لكنها تبحث عن...

- عن اللون الأبيض، وردة واحدة بخمسة شواقل، ما يعني أنها ستعود إلى بيتها بعد الظهيرة مشيًا على الأقدام في هذا الطقس المُتقلب شديد البرودة. لا يهم!

- طبعًا لا يهم!"

يا أصدقاء لماذا كل هذا الحزن في المشهد الافتتاحي؟ لنعطِ المساحات هنا... ربما قد ننجح بإرسال نبضة في قلوب المكسورين التي لا يداويها أحد أو نرسم الابتسامة على وجوه العابرين إلى أعمالهم صباحًا، علّنا ننجح بإشباع الجوعى وتوزيع الحلوى وإذ رغبنا بجرعة مضاعفة من البهجة فقد نضع البلالين على نوافذ المباني.

"-هههههه هل يوجد في العالم مثل هذا الشيء (ضحكة باستهزاء) لا سيما في الشرق الأوسط؟ حيث تتعاهدنا الأزمات السياسية والإجتماعية المُتلاحقة.

- هنا على هذه الأوراق لا زمان ولا مكان، مع تحفظي الشديد على الاختراع الإمبريالي المُسمى بـ"الشرق الأوسط!"

- غير معقول، لا بُد من وجود مدينة ما، شارع، عنوان...

- (مقاطعة) عادي جدًا، لماذا تضع المحددات؟ لنجعله فضاء يتخطى المكان والزمان بلا قيود، لنصهر حِلمين هنا على هذه الورقة، وقد نتلصص خلال ذلك على أحلام الآخرين حولنا فنكتبها، نقدمها إلى هذا العالم، عَلّه يأخذنا على محمل الجد قليلًا.

- تُرى بماذا يحلم الآخرون حولنا؟ لقد تملكني الفضول لأعرف. انظري هناك، على اليمين، يا إلهي لا تبحلقي بهذه الطريقة، بعض الكياسة، القليل منها أرجوكِ... أخيرًا، شكرًا! نعم، تلك الفتاة بماذا تحلم وقد غابت بين الكتب المتكدسة؟ لم تقلب الصفحة منذ جلسنا، عقلها مشغول بماذا يا ترى؟ تطرق بالقلم مرات ومرات على الكتاب، ترفع رأسها تنظر إلى ساعة المكتبة ثم إلى ساعة يدها فساعة جهازها الخليوي، هكذا بهذا الترتيب، امرأة قلقة، في انتظار شيء أو أحد ما...

- في هذه اللحظة، تتمنى بأن ينتهي هذا الانتظار إلى الأبد، انتظار اللحظة المناسبة، الوصول، الشعور بالطمأنينة، كل الأحلام قد تبدو رفاهية أمام لحظات الانتظار المزعجة: شهادة الدراسات العليا، الوطن الدافىء، المدن المجهزة ببنية تحتية متينة، العدالة الاجتماعية، الشفافية، مستقبل واضح، وطن محدد الجغرافيا وأرشيف رسمي منظم و...

- من يحلم بأرشيف رسمي؟ هذا بند تضعه الدولة في خطط عملها، لا حلم مواطن (يضرب كفًا بأخرى دلالة على سذاجة الفكرة)

- أما نحن فلا نتمتع بمواطنة ولا بأرشيف رسمي... ارتح! انظر، ذاك الشاب يسير نحو طاولتها، يقترب منها، تبتسم، تضيء عينيها، يضع شيئًا أمامها.

- شوكولاته! هههههه انها جائعة في انتظار حبة شوكولاته، لم تحلم بكل الذي هرجنا به منذ قليل.

- أوووو (بنبرة محبطة)... لنعد مرة أخرى إلى تصميم مشهدنا الافتتاحي".

 تختلس نظرة سريعة مرة أخرى، تُخرِج كوب القهوة، تأخذ منه رشفات عديدة ثم تُعيده الى الحقيبة، على الرغم من رشفات القهوة التي تبدو لانهائية وسِجالات المشهد ؤ المستمرة دون التوصل إلى اتفاق حول فكرة المشهد، إلا أن موعد المغادرة قد حان دون انهاء المهمة! يغادران المكتبة، يخرجان إلى الرصيف المبلل، لا زالا يتجدالان بدفء [هييييي (علي) اجعله مساءً ماطرًا، دع سيارة مسرعة يقودها سائق قليل الذوق تمر من جانبهما اوووو، لقد تبللا بالفعل في هذا البرد، لقد غضبا، ههههه مزحة ثقيلة مني]. عند مفترق الطرق ودّعا بعضهما، إنهما يعرفان جيدًا بأنهما لن يتفقا على شيء، لكنه سبب كافٍ للحضور واللقاء مرات.

لندعهما يتقلبان بنعمة الإكتفاء المؤقت المُغلف بالسعادة... تعالوا معي، هيا ندخل سويًا إلى غرفة مكتبتي، لا تدعوا الفوضى تثير دهشتكم، أهلًا بكم إلى عالمي! لماذا تحلقتم حول اللوحة البيضاء؟ هل أعجبتكم؟ سأخبركم أمرًا، اقتربوا إنها نافذة سرية إلى حيوات أخرى. تفضلوا بالجلوس، سأقرأ على مسامعكم مشهدًا افتتاحيًا بفكرة مُغايرة:

"في مكان ما غير مُسمى وفي وقت لا يعترف بالساعة، انسّل ظِلٌ من شجرة صبّار من إحدى حواكير المكان، وفي يديه أمسك قلمًا وممحاة وكل أدوات الرسم، سعة كفيه غير بشرية لكن له روح ملولة كالبشر تمامًا، أزاح لتوه الكثير من السيارات المصطفة وراء بعضها في الشوارع الضيقة، ثم شرع يرسم شوارع جديدة واسعة في ظل عجز البلدية الدائم عن إعادة تخطيط المكان بحجة ندرة المهندسين على الرغم من مقاعد كليات الهندسة الممتلئة، كما محا الكثير من طوابق العمارات الشاهقة محددًا اياها بأربعة فقط مطالبًا سكان المكان بالتمتع بنور الشمس البَذِخ، ثم أعاد زراعة أشجار السرو والصنوبر محتجًا بصوت غاضب "تنفسوا بعض الأكسجين، حبًا بالله." لقد رأى كلبًا ضالًا جائعًا فرسم له قطعة لحم كبيرة ووضعه في برية تشبه بيئته القديمة قبل عهد التمدد العمراني العشوائي رغبة منه في انقاذ التنوع الحيوي المُهدد، أما المرأة العجوز التي تهدّم بيتها ولم يحن دورها في قائمة المساعدات التي قد تتدارسها الشؤون الاجتماعية فقد رممه وخصص لها ممرضة ترعاها بشكل دائم، وبالنسبة إلى الصّبية الذين يبيعون في الشوارع وعلى إشارات المرور فقد رسم لهم حقائب مدرسية وأرسلهم مُجددًا إلى المدرسة، كما استفسر عن رغبات السكان، فجاءوه مُطالبين بتجسيد حقيقي لوجود الدولة".

لم ينتهِ المشهد، الصور مُتلاحقة والتفاصيل كثيرة، أما انتظاركم يا ضيوفي الأعزاء لحصول مُعجزة ما فهو عبثي تمامًا كما "في انتظار غودو". منذ شهر استلمتُ لعبة "ليجو" مُلحقًا بها كُتيب عن بناء وإعادة تفكيك الوطن، لكنها تآكلت، لم يبقَ منها إلا قطعة واحدة، ما رأيكم... هل ستنجو؟

بينما تتبادل "ربّة المشهد" وضيوفها الأفكار النخبوية، يتمدد علي على خشبة المسرح خَدِرًا بشعور الرضا الذي يحس به لأول مرة منذ بدء العمل لدى "المعتوهة" كما يصفها من شدة حبها للسيطرة. فقد لعب أخيرًا دورًا ما في المشهد دون معرفتها، كان خيط القدر الحاني الذي لا يرتضي بأن يستبد الشوق بصاحبينا، ذلك أنه أثناء جلوسهما في المكتبة وعلى غفلة من الجميع وضع كوب قهوة ورد في حقيبة الشاب الذي أسماه بـ علي 2 تيمنًا بنفسه، مُضيفًا إلى حجة اللقاء من أجل إنجاز "المهمة" ما اعتقد أنه أكثر إلحاحًا: كوب قهوة ورد المُفضل.

فعلي شاب بسيط لا تؤرقه شبكة الطرق القديمة ولا الجدالات النظرية لأسس قيام الدولة وكل القضية لا تعنيه إذ تم جمعها في أرشيف وطني أم لا، بل حتى أنه لا يعرف معنى أرشيف ويرتبك ذعرًا أمام كلمة وطن واشتقاقاتها. علي ذو القلب الرقيق يهمه بأن يتحقق ما عجز عن الحصول عليه في الواقع، استشعار الحب.

تتقاسم نافذة المشهد الواحد زاويتان مختلفتان، إحداهما تطل منها ورد والأُخرى علي 2، يلتفتان في نفس اللحظة نحو علي الذي يُشاهدهما مُتبسمًا ويقولان له ما لم يسمعه أبدًا "أنت بطلنا"، تدمع عيناه فرحًا ويبكي.

 

اقرأ/ي أيضًا:

الخوفُ من أن تملك شيئًا لتخسره

فرْدانيّةُ الكآبة الجمْعيةُ