09-ديسمبر-2018

التردي مشروع ممول وليس مجرد ثمرة للإهمال (Getty)

سئل ضمير السياسيين والمثقفين الحقيقيين في الحزب الحاكم الجزائري، عبد الحميد مهري، قبل رحيله عام 2012، عن أسباب الرّداءة التّي باتت مستفحلة في الفضاء الجزائري، فقال: "للردّاءة رجالها"، في إشارة منه إلى أنّ "ترديء" الواقع والمجتمع هو مشروع مموّل ومخطّط له ومسنود، وليس ثمرة للإهمال والارتجال فقط.

ترديء الواقع والمجتمع هو مشروع ممول ومخطط له ومسنود، وليس ثمرةً للإهمال والارتجال فقط

بات ينتابني شغف وفضول عميقان في منحى رصد نفسيات وذهنيات وتصرفات الأشخاص غير الموهوبين، الذين خالطوا جماعة الأدب والفنّ في البلاد العربية، فباتوا يعتقدون أنفسهم كتّابًا وفنّانين، ويتصرّفون على هذا الأساس.

اقرأ/ي أيضًا: الثقافة الجزائرية: حين تصير الرداءة منظومة حاكمة

ولأن الساحة الأدبية العربية أضحت تفتقر إلى معاييرَ صارمةٍ، تحول دون وصول المغشوش إلى واجهتها، فقد صار بعضهم نافذًا فيها، مستغلًّا نفوذه ذاك في إقصاء وتهميش المواهب الحقيقية، بل إنّه صار في أحايينَ كثيرةٍ يمثّل المشهدَ الأدبي والفنيّ في منابرَ عالميةٍ وازنةٍ، مما يُعطي انطباعًا بأنّ العرب متخلّفون أدبيًا وفنّيًّا.

إنّ قلّة الحياء، والقدرة على تحمّل الصّدمات الناتجة عن مواجهتهم من طرف الجيّدين، هما الصّفتان البارزتان في هذا الصنف، إذ لا يجدوا حرجًا في تقديم أنفسهم ونصوصهم، حتى في حضرة القامات الكبيرة، وإذا وجدوا حشمة منها، فإنهم يتوغلون في ادعاء صداقتها، والقول على لسانها إنها زكّتْ "تجاربهم الإبداعية"، وقالت فيها كلامًا محمودًا، والدليل ليس مكتوبًا، فقد يتورّط القلم الكبير شفويًا، لكنّه لا يفعل كتابيًا، إلا في حالات نادرة محكومة بالمصالح. 

وبدلًا عن ذلك يكون الدليل صور يزرعونها في مواقع التواصل الاجتماعي، التي تكاد تتحوّل إلى بيوت لهم، ومكالمات هاتفية يجرونها مع هؤلاء الكبار، في حضرة من يريدون أن يقنعونهم بصداقتها.

ولأنّ المغشوش حليف المغشوش، على وزن "الشاعر أخو الشاعر" كما قال آرثر رامبو، طبعًا يقصد الشاعرَ الحقيقيَّ؛ فقد تحالف هذا الصّنف مع أشباهه، وتبادلوا أنساغ الحضور، حتى صاروا أسيادَ الواجهة، متواطئين مع إدارة ثقافية لا تملك الخلفية الكافية لفرز المبدع من الهزيل، ومنظومة إعلامية لا تملك النزاهة الكافية في التعامل مع المبدع دون الهزيل، والنتيجة: نطيحة ومتردية وما أكلت الرّداءة، والحديث قياس على المسرح والسينما والتشكيل وهلمّ فنًّا.

لقد كان تأثير هذا الصّنف محدودًا في زمن المنابر الورقيّة والهاتف الثّابت، حيث كان يجد صعوبة بالغة في الوصول إلى الواجهة، إذ علينا الاعتراف بأنّ معظم المنابر كانت تدار من طرف قامات وازنة تخاف على الاسم والسّمعة، وتملك الاستعداد لأن تخسر الصداقة مقابل أن تربح المصداقية، وقد اختفى ذلك كله باكتساح الوسائط الجديدة الفضاء العربي، فصار زمام الضّبط في الأيدي، التي "لا تخاف الله" في الجودة والعمق والتميّز والابتكار والفرادة والموهبة والتّجديد والتّجاوز.

الفنون المسرحية والروائية والسينمائية، وبحكم طبيعتها الرصدية والتحليلية، فهي مدعوة للاستثمار جماليًا في واقعنا العربي المشوه بالزيف والادعاء

إنّ الفنون المسرحية والرّوائية والسّينمائية خاصّة، بحكم طبيعتها القائمة على الرّصد والتّحليل، مدعوة للاستثمار جماليًا، في هذا الواقع العربي المنخور بروح الزّيف والادّعاء، بالاشتغال على ما يحفل به من نفسيات وذهنيات وسلوك، فقد اشتغلت خلال عقود الاستقلالات الوطنية الأولى، على صورة المثقف الثوري/الحالم، ثم صورة المثقف المهموم/المتأزّم، وآن لها أن تشتغل على صورة المثقف المزيّف، حتّى تكون منسجمة مع التحوّل الحاصل في الحياة الثقافية العربية.

 

اقرأ/ي أيضًا:

هل خلاص الثقافة العربية في انتشار الهوامش؟

المؤسسات الثقافية في الجزائر كأداة لخدمة النظام