مشروع نور الشريف: التجريب كوعي.. الإنتاج كموقف.. التمثيل كحرفة
11 أغسطس 2025
في تاريخ السينما المصرية، قلما نجد فنانًا شديد الحرص على أن يتجاوز حدود مهنته كممثل، أو ألا تكون النجومية فقط هي مسعاه وهدفه. نور الشريف أحد هؤلاء القلائل، الذي لم يكن حضوره مقتصرًا على شاشات السينما والتلفزيون، بل امتد أثره إلى ما هو أبعد من ذلك. ولعلنا حتى يومنا هذا نعيد اكتشافه، حتى دون البحث وراءه؛ فبين كل فيديو قصير وآخر على مواقع التواصل الاجتماعي، نجد لنور حديثًا في لقاء تلفزيوني، أو مقطعًا مصورًا من ورشة تمثيل قدَّمها، نقف أمامه كثيرًا، ويثير فضول الآخرين في البحث وراء هذا المشروع، الذي نكتشف أنه، بحق، كان صاحب مشروع طويل النَفس للغاية، يعشق التجريب والاكتشاف، لا يكتفي بالاسم المتحقق، بل يحمل على عاتقه هَم الصناعة التي يعرف تاريخها جيدًا.
ذكر الناقد جمال عبد القادر في مقدمة كتابه "قراءة في مشوار الأستاذ" أن نور الشريف مؤسسة سينمائية قائمة بذاتها، قدّم كثيرًا للسينما كممثل ومنتج ومخرج وصانع أفلام، ومكتشف أيضًا للعديد من النجوم والمخرجين. لم يشغله أكبر إيراد أو أجر، بقدر ما شغله سؤال مُلّح: ماذا يقدم للجمهور؟ وما الذي يتبقى له في تاريخ السينما وتاريخه الفني؟
كان صاحب مشروع طويل النَفس للغاية، يعشق التجريب والاكتشاف، لا يكتفي بالاسم المتحقق، بل يحمل على عاتقه هَم الصناعة التي يعرف تاريخها جيدًا
ربما يعود انشغال نور الدائم بتحديد هويته داخل صناعة السينما إلى سؤال الهوية الشخصية الذي طارده منذ الصغر. وتلك الحكاية التي طالما سردها بعدما أصبح نجمًا كبيرًا في العديد من اللقاءات التلفزيونية، حين اصطدم بأن الاسم الذي يحمله قبل دخوله المدرسة ليس اسمه الحقيقي، وأن والده الذي عاش في منزله لم يكن والده الحقيقي. ومنها إلى صدمة تلّح عليه لأن يكون صاحب هوية وبَصمة. ربما هذا الشتات الذي دق باب قلبه منذ الصغر هو ما جعله يتشبث بالبحث حتى يترك اسمه؛ الذي لم يكن اسمًا في شهادة ميلاده التي سجلها هؤلاء الأهل الذين تسببوا في حيرته صغيرًا، بل يكتب هو اسمًا لذاته وبذاته، دون أن ينُسى، ولو للحظة، خلفية لحظة اكتشافه الحقيقة.
التمثيل للتدريس لا للأداء فقط
في أغلب الظن، لو تطرقنا لمحاولات تحليل شخصية نور الشريف، لتطلب الأمر منا كتابًا لا مقالًا. ولكن فلنمضي على مهلٍ في إعادة اكتشاف نور الأكاديمي، الذي درس في المعهد العالي للفنون المسرحية، ثم قام بالتدريس فيه. تلك الخلفية الأكاديمية التي تمتع بها كثيرون غيره، وما زال سنويًا يتخرج من الأكاديمية نفسها الآلاف، ولكن حمل عاتق تمرير العلم من جيل لآخر كان همّا واضحًا في نَفْس نور.
فأثناء مشاهدتي لجزء من ورشة "إعداد الممثل" التي قدّمها الفنان بدولة الكويت، تطرق لكثير من الأمور، بين رصده لتحليل الفارق في الأداء وتطور أداء الممثل بين يوسف وهبي ونجيب الريحاني. لم يكتفِ بشرح الفارق وأسبابه، بل أسند الأمر تاريخيًا لمرجعيته عن المسرح اليوناني. وكل دارسي الدراما بالتأكيد يعي مدى أهمية تلقي كل المعلومات الخاصة بتاريخ ونشأة المسرح اليوناني. واللافت في الأمر أن هذا التاريخ الطويل وتطور شكل الممثل وعدد الممثلين بالعرض، بين أسخيلوس، سوفوكليس، ويوربيدس، رواه نور بشكل سلس، يتمتع بحضور قوي كمحاضر، ويتمتع أيضًا بالتقاط لحظات الملل لدى الدارسين، ومنها يقوم، بين حين وآخر، باستدعاء أداءات الممثل الأوحد في المسرح اليوناني، ذات القناع والأرجل الخشبية ومساند الأكتاف وغيرها من أدوات وإكسسوارات الممثل التي كانت تعوق حركته، ليتحرك في قاعة المحاضرة بأداء بطيء، ويعود ليربطه من جديد بأداء يوسف وهبي في وقت تلقي صدمة ما، مع مقارنته بتطور الأداء مع الريحاني.
وربما نجم بحجمه لم يكن يعنيه أبدًا أن يشير لأهمية الأعمال الإذاعية، لكنه، بكل صدق، يشير لأهميتها وصعوبة الانضمام للإذاعة المصرية، في نفس المحاضرة المذكورة. ومن ثم يتطرق ليحلل أداءات الممثلين أمام الميكروفون الذي يخاطب جمهورًا يتلقى بأذنه. وكيف يتحمل الممثل عبء أن يرسم الصورة كاملة بصوته، دون الانجراف نحو العمل على الأداء الجسماني أو الشكلي المرهق دون جدوى. وربما هذا هو، بالأساس، أحد أهم ركائز تكنيك نور الشريف في مسيرته التي كان يعي فيها، مع تطوره، أن الاندماج لا يمثل إبداعًا، بل الفصل بين الواقع والتمثيل وحرفة التحكم في أدوات الممثل التي يحتاجها المشهد، هي الحرفة الأعلى التي تفصل ممثلًا متمكنًا عن آخر هاوٍ.
فالأمر لم يتوقف عند المقارنة بين أداء ممثل وآخر أو وسيط درامي وآخر مثل الإذاعة والسينما، بل شرحه بالتفصيل لتطور شكل المسرحية من اليونان إلى شكسبير. وكذلك تطرقه تحديدًا لشكل الصراع من صراع البطل مع القدر، إلى صراع البطل مع ذاته. وبالتالي – ودون أي تأكيد منا أو تكرار أنه مطلع ومثقف لأنها معلومات بالتأكيد يعرفها الجميع – فأي دور كان يُعرض على ممثل بحجم هذه الثقافة والمرجعية، التي لم تقتصر على العمق في تاريخ الدراما فقط، بل المرجعية السياسية والفلسفية والفكرية، بالتأكيد يعرف أصوله، وأثره، وربما تبعاته.
نور الشريف المُنتِج، بأنه لا يقل نجاحًا وتألقًا عن نور الشريف الممثل، إن لم يكن أفضل وأقوى في رأيه، ويُرجع هذا الرأي إلى أن إيمانه الشديد، سواء بمخرج واعد أو كاتب جديد أو ربما تجربة سينمائية مختلفة
ومنها، فليس هناك أصلح من هذا التكوين أن يكون صانع أفلام، لأن هناك عشقًا واضحًا للتاريخ بشكل عام، يمّكنه من فهم طبيعة السوق مع الخبرة المكتسبة من العمل، وبجانب هذا وذاك، شعوره بأنه فنان ممتلئ لا يغار أو يقلق من أن يقدم مواهب جديدة لسوق السينما، أو يخوض تجارب سينمائية ويخاطر من أجل إيمانه بها.
يصف جمال عبد القادر في الكتاب نفسه، نور الشريف المُنتِج، بأنه لا يقل نجاحًا وتألقًا عن نور الشريف الممثل، إن لم يكن أفضل وأقوى في رأيه، ويُرجع هذا الرأي إلى أن إيمانه الشديد، سواء بمخرج واعد أو كاتب جديد أو ربما تجربة سينمائية مختلفة، كان الدافع الحقيقي وراء خوضه تجارب الإنتاج، حتى لا يتحمل منتج آخر نتيجة مجازفاته. وكانت أولى تجاربه الإنتاجية في فيلم "دائرة الانتقام" مع المخرج سمير سيف عام 1976، ثم في "ضربة شمس" مع محمد خان عام 1980. وبجانبهما قدّم داوود عبد السيد أيضًا في فيلم "الصعاليك" عام 1985 ومحمد النجار في "زمن حاتم زهران" عام 1987،
مغامرات بين الفشل والنجاح والتناقضات
كما يذكر الكتاب نفسه أن تجارب نور في الإنتاج، كانت تتم أحيانًا بسبب حماسه للفكرة نفسها. وضرب مثالًا قويًا على ذلك بإنتاجه فيلم "قطة على نار" عام 1977، الذي تخوف منه السيناريست رفيق الصبان حين عرض نور عليه الفكرة المأخوذة عن "قطة على صفيح ساخن" لتينيسي وليامز، بسبب بعض الأفكار الجريئة الموجودة بالنصّ الأصلي، ولكن إصرار نور على الفكرة هو ما دفعه لإنتاجها وخروج الفيلم للنور، مع وضعه في الاعتبار التخوفات كافة والتي قادته لمحاولات كسر نمطية القصص المطروحة في السينما حينها، وحبه للمخاطرة والخروج عن المألوف.
وبدافع الإصرار، أقدم نور أيضًا على إنتاج فيلم "آخر الرجال المحترمين" عام ١٩٨٤، هذا الفيلم الذي يعتبر الأكثر تحقيقًا للخسائر المادية في تاريخ نور الإنتاجي، وربما ما قاده للإنتاج هو إصراره على تقديم فكرة "قيمة الإنسان". ربما ظهرت بشيء من المباشرة والقيم التربوية، إلا أنه كان شديد الإصرار على أن يقدم أطروحة ينتقد فيها نظامًا لا يتحرك أمام فقد الإنسان، في مقابل تحركه أمام فقد بعض الأشياء التي يظنها البعض ثمينة مثل الممتلكات والمجوهرات. وعلى الرغم من فشل الفيلم على مستوى الإيرادات، إلا أنه من أشهر أفلام نور الشريف حاليًا بعد عرضه على شاشات التلفزيون، بجانب تعبيره المستمر عن حُبه لهذا الفيلم في كثير من لقاءاته. وحسب الكتاب المذكور، فإن هذا الفيلم هو أكثر الأفلام عرضًا في أوروبا "حيث يعرض الفيلم في ألمانيا والنمسا، بسبب فكرته التي تُعلي من قيمة الإنسان، كما أنه يُعد من الأفلام العربية القليلة التي تُعرض في أوروبا بوجه عام".
ومن خلال هذه التجارب، يتضح أن تحمُّل نور لمسؤولية الإنتاج لم يكن ترفًا، أو طمعًا في أن يُقال عليه إنه رجل متعدد المواهب، بل هو موقف حقيقي من الصناعة التي ترفض أن تخوض مخاطرات بسبب بعض التحفظات أحيانًا والموقف السياسية أحيانًا أخرى. وكذلك الاجتماعية، حين أدرك أنه لا قيمة للإنسان في هذا المجتمع.
ربما نتلّمس من تلك التجارب والهموم التي طالما شاركها في حكاياته في البرامج، بعضًا من التناقضات التي توضح أنه مولع بالسينما لدرجة انخراطه في مبادئ، ثم العزوف عنها. فمثل تلك المخاطرة الخاصة بـ "قطة على نار"، توضح مدى شجاعته في كسر قوالب قيَم الأسرة وشعارات السينما النظيفة، لأنه مدرك قيمة هذا الفن، وربما قرأ كل ما يخص تاريخ ويليامز وغيره، ويعي تمامًا أهمية ما كتبوه. في مقابل، أثناء انشغاله بـ "آخر الرجال المحترمين" - وتلك الجملة التي تُعد أحد أهم أسباب فشل الفيلم في دور العرض - حين أعلن عن الفيلم قائلًا: "فيلم لا تخجل منه الأسرة"، في مناقضة لتلك القوالب التي كسرها سابقًا. وربما اعترافه هو ذاته بالخطأ، ولكن انغماسه الشديد مع الفكرة في وقتها كان يجعله متقمصًا ومتوحدًا مع الفكرة نفسها، ومؤمنًا بها بشدة وبكافة سبل طرحها. ذلك التقمص الذي بات يرفضه في منهج تمثيله، لكن على ما يبدو أنه كان يتملكه أحيانًا حين يؤمن بفكرة ليخاطر بها حتى النفس الأخير.
التقمص والالتصاق بالشخصيات
والدليل الأكبر والأشهر على ذلك هو فيلم "ناجي العلي" عام ١٩٩٢، وتجسيده لشخصية المناضل الناقد اللاذع للأنظمة العربية، واختيار تلك القضية بطولة وإنتاجًا تعني بشكل واضح اختيار أن يرتبط اسمه بأكثر القضايا حساسية في المنطقة. وبالفعل بعد عرض الفيلم، شُنت الحملات عليه بدرجة وصلت للإساءة بسمعته، وتمت مقاطعته إعلاميًا. وفي حواره المنشور بمجلة صباح الخير، فبراير ١٩٩٢ صرَّح قائلًا: "أدفع الثمن ولا بأس فإن البعض يدفع ثمنًا لقضية يؤمن بها".
تحمُّل نور لمسؤولية الإنتاج لم يكن ترفًا، أو طمعًا في أن يُقال عليه إنه رجل متعدد المواهب، بل هو موقف حقيقي من الصناعة التي ترفض أن تخوض مخاطرات بسبب بعض التحفظات أحيانًا والموقف السياسية أحيانًا أخرى
فهذا الاختيار والاصرار بالفعل يعتبر بمثابة توحد بين الشخصيتين، وكأن التقمص والتوحد مفروض عليه فرضًا، رغم أنه لم يتبنه كمنهج في الأداء التمثيلي الخاص به، ليكون نور الشريف، من بعد هذه التجربة، هو الممثل الذي استخدم أدواته كافة في تقديم أداء يوقظ الذاكرة ويستنطق المسكوت عنه.
فربما من تبنى التقمص منهجًا، وعايش شخصياته كافة وانخرط فيها لحمًا ودمًا مثل أحمد زكي، وقدم العديد من الشخصيات المعروفة بسير ذاتية تخصهم، إلا أن القضايا لم تكن هدفه، بل كان التمثيل هو مبتغاه الأساسي، والتوحد مع كل شخصياته هو جزء لا يتجزأ منه. بينما نور، الذي يعي تاريخ فن التمثيل بأكمله، ويعي الفارق بين الإذاعة والمسرح والسينما، ولعب في كل الوسائط الدرامية، وتنوع أكثر بكثير من أحمد زكي، وتبنى منهج "لا للتقمص" في أدواره، التصقت به بعض مواقفه وشخصياته وتوحدت حوله، لأسباب لا علاقة لها بتكنيك الأداء لديه.
وهذا دون خوض أي مقارنة أو أفضلية بين أيٍّ منهما، ولكن من باب التذكير لأكثر ممثل ارتبط به منهج التقمص في السينما المصرية، في مقابل هذا الرافض الذي التصقت به شخصيات، رغم رفضه أن تلتصق به خارج حدود الأستوديو. فكلاهما حمل همومه وطريقة أدائه التي توجع منها وبها؛ زكي بالأداء الذي انصهر فيه وتأكلت صحته من أجله، ونور بالموقف الذي صاحبه وربما أضره في وقت من الأوقات لكن ذلك لا ينفي أبدًا أنه اليوم مشروع فكري وثقافي مكتمل. ولا زلنا بحاجة ملحّة إلى البحث وراءه أكثر بين كل حين وآخر.