19-ديسمبر-2015

باتت مشروع ليلى تركز، في أغانيها، على الاستناد للأساطير ونثر الرموز والدلالات من عدة ثقافات مختلفة

أصدرت فرقة "مشروع ليلى" اللبنانية في نهاية الشهر الماضي ألبومها الرابع بعنوان "ابن الليل"، وتزامن الألبوم مع بعض الأحداث العالمية والمحلية على الأصعدة التي تتقاطع مع بعض قضايا المهمشين التي تبنتها الفرقة منذ نشأتها. ففي هذا العام أعطت أمريكا المثليين جنسيًا الحق بالزواج، بالإضافة إلى الحراك الشعبي الذي اندلع في لبنان، والذي طال انتظاره. فهل كان لهذه الأحداث أثر على إصدار الفرقة الأخير؟

ما يميز "مشروع ليلى" هو كلمات الأغاني التي تشكل مزيجًا خاصًا بين كلمات الشارع الخفيفة والرمزية العالية 

إن التغييرات العالمية والمحلية ترافقت مع تغيير على صعيد نمط الفرقة الموسيقي، فالتحول من الإيندي روك إلى الإليكتريك بوب يبدو منطقيًا في ظل تأطير قضايا الفرقة واختزالها بمجموعة من الصور والشعارات والأصوات، فالقضايا كانت مهملة في السابق، والفرقة كانت تجد لنفسها مساحة موسيقية أكبر بالتعبير عنها، والآن وبعد أن تأطرت، فإن موسيقى البوب برتابتها أصبحت تلائم هذه القضايا أكثر. إلا أن الفرقة لم تنسلخ عن ماضيها الموسيقي بشكل كامل، فبقيت موسيقى الفايولين تحاول أن تجد لها ولهوية الفرقة الخاصة مساحة من خلال انتفاضتها على الموسيقى الإلكترونية، وينتهي الألبوم بأغنية "المريخ" التي تغرد بها الآلات الحية خارج السرب بعيدًا عن الموسيقى الإلكترونية.

إن ما يميز الفرقة ليس توظيفها المدروس للموسيقى وحسب، بل إن كلمات الأغاني التي تشكل مزيجًا خاصًا بين كلمات الشارع الخفيفة والرمزية العالية هي العنصر الأكثر نجاحًا في الألبوم الأخير. حيث إن الفرقة باتت تركز وبشكل واضح على تركيب المعاني من خلال الاستناد للأساطير ونثر الرموز والدلالات من عدة ثقافات مختلفة، ومع هذا لم يقف ثقل المعنى حاجزًا أمام استخدام الكلمات الخفيفة التي تضفي حيوية على بعض الأغاني، مثل لازمة أغنية الجن "ما أشربش القازوزة ولا الشاي أنا"، فتشعرك هذه الكلمات أن الأغنية سلسة ومن الممكن ترديدها رغم الثقل في معناها.

ومن جديد، تجتهد الفرقة بالبحث عن مقطوعة مناسبة لإضفاء بصمة خاصة على افتتاحية الألبوم، وبعد أن استخدموا الموال الشرقي-الغربي كمقدمة لألبوم "الحل رومانسي" واستخدموا مقدمة موسيقية قصيرة في بداية ألبوم "رقصوك"، فإن خيار الفرقة كان هذه المرة أكثر غرابة ، فافتتحوا الألبوم الجديد بمناجاة لملهمة الغناء عند اليونان "أيودي" لتسيطر على الألبوم نغمة الأسطورة. 

إن كلمات الأغنية الافتتاحية تؤكد على الضياع الذي تعيشه ليلى في الوقت الراهن، وليلى التي تشعر بأنها أسيرة مرآتها، لا تعتقد بأنها قادرة على حمل العباب والموجات القادمة، وفي الأغنية التالية "3 دقايق" تؤكد الفرقة بأنها قادرة على لعب كل الأدوار ولكن التحول الأخير بالنغمة التي تعزفها الفرقة ليس ناجمًا عن العجز، بل هو نتيجة طبيعية للتناقضات الموجودة داخل كل إنسان. وتبدأ النغمة الروحانية التي تسيطر على الألبوم بشكل واضح بالظهور في الأغنية الثالثة "الجن"، حيث تستخدم الفرقة كلمات ذات دلالات روحية ودينية لم يلجؤوا إليها في أغانيهم القديمة، "عمادة كبدي من الجن برقص لعود من الجن، رح غطس كبدي بالجن باسم الأب والابن"، وتبدو الأغنية وكأنها طقوس غريبة تمارسها الفرقة "نشرب من دم الغزال"، "جايين لابسين الجلود" في سبيل التحضير للأسطورة المهيمنة على الألبوم وغلافه، والتي تحمل عنوان الأغنية الرابعة "ايكاروس". 

تشعر "مشروع ليلى" أنها أسيرة مرآتها، ولا تعتقد بأنها قادرة على حمل العباب والموجات القادمة

أسطورة إيكاروس هي أسطورة يونانية، تحكي قصة هرب إيكاروس ووالده ديدالوس من متاهة كريت مستخدمين الريش المثبت بالشمع على أجسادهم للطيران فوق المتاهة، لكن الولد "إيكاروس" لقي حتفه لأنه حلق باتجاه الشمس متناسيًا نصيحة والده. إلا أن أغنية إيكاروس لا تنشد الأسطورة، بل تبني على مرجعيتها المعنى الجديد، ليست الشمس هي التي ستذيب الشمع، بل إنه نبضنا المستمر ونحن نرتدي الأكفان، والابن الذي يرفض أفكار الأب (المتمثلة بالراديو) سيقدسها هو نفسه عندما يموت أبوه، حيث تنشد ليلى "علمني غنية الراديو، وقلي غنيها عترابو".

وتترك الفرقة باب الأسطورة مفتوحًا على مصراعيه في الأغنية التالية ليدخل بها جميع المشاركين، فجميع من لبس اللون الأسود (لون ليل الثورة)، سيصبح من مغاوير الثورة في المستقبل القريب. الأغنية التي طرحتها الفرقة قبل أيام من إصدار الألبوم، وقبل أيام قليلة من عيد الجيش اللبناني، تسرد كلماتها على شكل تعدادات تشبه لحد بعيد المعلومات التي تُلقّن في المدارس. تبدأ الفرقة بالبداية بأداء واجبها القومي ومعايدة أبطال الجيش اللبناني، وتنبئهم بأن الثورة ستكون طويلة وبعيدة عن ملهاهم، وترى ليلى أن الثورة تشبه اللعبة ولكل مشارك دوره الخاص، ويبدو ذلك واضحًا بكلمات الأغنية "علمونا على الملعب نلعب عصابات، شوب شوب قوصوك، كنا سوى عم نتسلى وينك اختفيت".

وفي الأغنية السادسة "كلام"، تتحول الفرقة لتشاهد الثورة من الزاوية المقابلة، حيث ترى أن المشاركين ضحايا وليسوا مجرمين، ضحايا لجهلهم وتبعيتهم الدينية الملتحفين بها، فتصف ليلى الثوار "الجهلانين ملتحفين بوراق التين وحواجبهم مرفوعين"، إنهم الدرع البشري في أي حراك سياسي، وعلى أجسادهم ترسم الحدود "كتبوا حدود البلد على جسدي وجسدك".

وفي الأغنية السابعة، تنشد الفرقة أوجاعها الخاصة مؤكدة أن الثورة قديمة، مسترجعين حادثة من الماضي، حادثة إقفال بار ghost ليؤكدوا أن المثليين جنسيًا كان لهم دور في الثورة من الخطأ إغفاله "وانمحيت من كتب التاريخ كأنها تاريخك"، فأصوات ومظاهرات وآهات المثليين جنسيًا في لبنان تحولت لأغان تنشدها الأشباح تحت رصاص بيروت، إنها البذور التي ستبقى بالهامش "خبز الغراب بدا ينما منورت الأرض غدًا يما".

إذا كان مصير إيكاروس هو السقوط، لماذا يسقط في أرض أبيه؟ لماذا لا يسقط في المريخ؟

وفي الأغنية الثامنة، تبرر ليلى غيابها عن ساحة الثورة لشعورها بأن النداء للثورة جاء ثقيلًا شبيهًا بصوت المسحراتي في رمضان "عم لفلف حالي بتختي كل ما يمر المسحراتي"، ولكن ليلى ستغني مهما كانت الظروف، حتى وإن كانت أغانيها غير مناسبة للحالة الاستهلاكية الراهنة ولن تجد مكانًا لها سوى الفيترينات.

وبعد الحديث عن الشعور الخاص، والوضع العام من المنظور الخاص، تسقط الفرقة في فخ التعبير عن هموم الآخرين عندما تغني للنساء المهمشات، لتكسر الأغنية إيقاع الألبوم الصاعد.

وفي أغنية أصنام تعود الفرقة إلى الأسطورة، لتحلل كيف تبنى الأسطورة والكلام المقدس "حرفوه ورددوه قدسوه ورتلوه". ومنها تنتقل لمقطوعة سعد السعود، ليربط المصير اللبناني بالأسطورة السورية، وسعد السعود هي ثالث السعود الأربعة التي ينزلها القمر، ويقال سعد السعود بعد العشاء ما في قعود لأن مدة الليل قصيرة! وكأن الليل السوري أطلق عقارب خباياه إلى لبنان.

وفي أغنية "أصحابي" تختزل ليلى آلامها بصيحات ابن الليل، وفيها تؤكد أن موسيقى الثورة العالية ستغطي على أصوات المهمشين. وينتهي الألبوم بأغنية المريخ وتنتهي أسطورة إيكاروس معه، ايكاروس يرغب بالخروج من عباءة أبيه بعد أن يذوب الشمع ويسقط، نعم إن إيكاروس مصيره السقوط ولكن لماذا يسقط في أرض أبيه؟ لماذا لا يسقط في المريخ؟

وهكذا فإن الألبوم لم يكن الألبوم تغنيًا بالأحداث الجديدة، فهو ليس تغنيًا بأمجاد المثليين جنسيًا في أمريكا كما ظن البعض، وليس تغنيًا بأمجاد الحراك اللبناني أيضًا، بل هو موقف فرقة مشروع ليلى من هذا الحراك القديم الجديد، الحراك الذي رفضهم وهمشهم ومحاهم من تاريخه.

اقرأ/ي أيضًا:

السارة والنوباتونز.. أوديسة موسيقيّة في بيروت

الجاز المصري.. إنهم جميعًّا يتنفسون ويغنون