27-فبراير-2023
سمير جريس

المترجم القدير سمير جريس

"عندما نعبر جسر اللغات، يكون على الترجمة أحيانًا أن تؤدِّيَ رسوم العبور، فتتخلَّى عن حرفٍ أو أكثر". 

 

هذا ما يعترف به ويتواضع عليه كل مترجم، بل ويدركه ربما أي قارئ حصيف وهو يتناول من على الرفّ كتابًا مترجمًا. فالترجمة بنت القراءة، أو هي بنت القراءة الفعّالة والمتحفّزة، أي تلك القراءة المتعدّدة، وغير المتكافئة بين البشر، والمستحيلة الانتهاء بطبيعتها. ولا غرابة من هذه الناحية في تعدّد الترجمات واختلافها وتباينها، قليلًا أو كثيرًا، لاسيّما فيما يخصّ الكتب السيّارة، مثل مسرحيات شكسبير أو أعمال ديستويفسكي أو قصائد إليوت أو ملحمة دانتي أو رباعيات الخيام وغير ذلك كثير.

في كل ترجمة جديدة تتوالد حيوات جديدة للنصّ الأصليّ

ففي كل ترجمة جديدة تتوالد حيوات جديدة للنصّ الأصليّ، تكشف عن رؤى وتأويلات كامنة في النصّ وتشخّص حالة معه ربما لم تكن شاخصة في الترجمة التي قبلها، سواء كان ذلك في اختيارات المترجم على مستوى النصّ ذاته واحتكامه لرؤيته الخاصّة في فهمه وتأويله، وحساسيات عصره وسياقه، فيعمد مثلًا إلى تفضيل لفظ أو اختراع مصطلح أو مراوغة بنية نحوية. كما قد يستعين المترجم في أحيان أخرى بالهوامش (أو يستعرض بها بلا داعٍ في أخرى)، محاولًا شرح ترجيحاته وتسويغها، أو تقريب معنى ذي نكهة بدت له متفلّتًةً في الترجمة فحبسها بالهامش.

إلا أن حديثنا عن هذه الألاعيب اللانهائية للترجمة وإرغاماتها وخسائرها على جسور النقل بين اللغات، يفترض حدوثها في سياق ثقافيّ رحب وحرّ، أي ذلك المستوعب للاختلاف والتنوّع وتعدّد الآراء، وحرية الرأي والضمير ورفع الوصاية عنهما. كما أنّه حديث ينطلق من بداهة تؤمن بضرورة أن يظلّ النصّ في حيواته المختلفة عبر الترجمة مصونًا عن التحريف المقصود، الذي يمحو منه أو يضيف إليه باعتباطٍ جبان، مدفوعٍ برقابة ذاتية أيديولوجية أو خوف من رقابة السلطة والمجتمع، ورغمًا عن إرادة الأصل ولغته ومؤلّفه.

فهرس بعض الخسارات

في هذه الحالة، لا يغدو الحديث متعلقًا باختيار شرعيّ ممكن بين عدّة اختيارات، بل نصبح أمام حالة خيانة قبيحة، وهي خيانة تختلف عن تلك اللصيقة بأذهاننا عن عملية الترجمة. فهذه خيانة لا تحتكم إلى قواعد لعبة الترجمة ولا احتمالات القراءة، ولا تدخل في باب اختلافات التأويل، والتي قد تصل إلى حدّ العداوة بين المترجمين، مثلما حصل مثلًا في الآونة الأخيرة من جدل حول الترجمة الجديدة لكتاب الاستشراق، أو الخلاف حول إعادة ترجمة "الكوميديا الإلهية"، وغير ذلك كثير في الترجمة، ومشروع. 

أمّا أن يلجأ مترجم إلى عمليات "التعقيم الأخلاقي" للنص المترجم، وإسقاط ما فيه من إحالات جنسية أو ما يراه هو هرطقات دينية، فنحن نكون هنا إزاء ترجمة ضدّ الترجمة، أي ضدّ القراءة وضدّ التعدّد، أي ضدّ الحياة، وذلك لأنها صادرة من موقفٍ ينفي هذا التعدّد ويقمع حقّه في الوجود. إنها ترجمة صادرة عن قراءة تُخرس النصّ وتتقوّل عليه، وتختفي وراء طهوريّة مجرّدة من الأخلاق، وذائقة ملوّثة معادية للحريّة ومفاعيلها الممكنة.

يحصل هذا كثيرًا في العالم العربي، دون التفات كبير للأمر. خذ مثلًا رواية "الإحساس بالنهاية" لجوليان بارنز، بترجمتها العربية الصادرة عن سلسلة "‘إبداعات عالمية"، وهي ترجمة اغتصبت النصّ وقهرته على نفسه قهرًا، فأسقطت منه فقرات بأكملها مرّ فيها ذكرٌ لمفردات الجنس ونزوات الشهوة، كما يسقط، ترفّعًا أو جهلًا، أسطرًا أخرى فيها وصفٌ لعلاقة حميمية، أو ذكر لشتائم فاحشة. وقد استمرّ الحذف والإخراس طويلًا في ترجمة هذا العمل، حتى خيّل إليّ أن المترجم لم يقرأ النصّ قبل الشروع في ترجمته، أو أنّه رضخ لسيف الرقيب وشروط الناشر، أو كلا الأمرين معًا.

والأمثلة فاضحة بكثرتها وبالصمت المطبق عنها، سواء في مجتمع القراءة والمراجعة، أو في داخل الترجمات ذاتها، حيث تغيب الإشارة إلى وقوع الحذف والتدليس على القارئ العربيّ ويسود التعالم الأبويّ عليه، بافتراض أنّه لا يحتاج إلى معرفة أكثر من ذلك في النصّ.

سوسة الرقابة والوصاية

إن سوسة الرقابة والحجر على التعبير تفتك بالنصّ كلّه بمجرّد أن تحلّ بأي جزء منه. فلو بترنا مشهدًا حميميًا من الرواية، فلم لا نبتر كلّ كلمة تحيل إليه وتقترب منه؟ ولو حذفنا كلمة "عاهرة"، فلم لا نحذف أيضًا كلمة "عارية"، ولو حذفنا الكلمتين معًا، فلم لا نطمس على كل شتيمة قبيحة، أو نلغي كل إحالة إلى الشراب والخمر، أو نقفز حتّى عن أفعال الطبيعة، من معاشرة أو حتى دخول إلى الحمّام أو نزع للملابس. ولو بدا لك أن هذا النوع من الشطب راديكاليًا وغير وارد، فانظر معي إلى هذه القصّة التي يحدثنا عنها مترجم قدير، هو المصريّ سمير جريس، تجعل مصيبة الرقابة مضاعفة وصادمة في مداها وصلافتها في سياقاتنا العربيّة:

الترجمة منكسة رأسها

 

هل من شخص أقدر من المترجم نفسه على الحديث عن الخسارة في النص والاعتراف به؟ يعترف المترجمون دومًا بالخسارات التي يمنون بها أثناء العمل على الترجمة، ولاسيما عند ترجمة الأدب، وبالأخص عند ترجمة عملٍ يعزّ عليهم أن ينزف من معناه أي حرف أثناء عبوره إلى اللغة الأخرى وقراءات أهلها. فكيف لو جاء هذا الاعتراف على شكل صرخة كهذه التي أطلقها الأستاذ سمير جريس، ينعى بها ترجمة بأكملها، ويضمّها إلى جدول خساراته، التي حاول دهرًا أن يحصرها بحدّها الأدنى الممكن، وهو يرعى عبور بضعة وثلاثين عملًا إلى اللغة العربيّة. 

لقد رصد جريس أثناء اطّلاعه المتلهّف على النسخة التي وصلته من عمله الصادر أخيرًا عن مشروع "كلمة" في الإمارات العربية المتحدة، ما وصفه بأنه "وصاية أخلاقية" فادحة، مسّت مئات الكلمات في فصل واحد وحسب من العمل الذي يعتبره هو "تحفة أدبية"، ومن الجليّ من فرط أسفه على ما دها الترجمة من خسف اعتباطي يكاد يكون همجيًا في آليّته، أن الكارثة عميمة، قد نالت من روح الكتاب الذي علّق المترجم شيئًا من روحه فيه، فهو من أجمل ما ترجم من أعمال وأشقّها. هذا الكتاب جاء بالعنوان العربي" فهرس بعض الخسارات"، للكاتبة الألمانية يوديت شالانسكي، وهو نصّ ذاتي عصيّ على التصنيف، يجمع بين السيرة الذاتية والتأمل والقصص، وبلغة شاعريّة رقيقة، ويمزج الواقع بالتاريخ والخيال، لتقليب الأوجه التراجيدية المتنوعة للفناء والزوال.

يعترف المترجمون دومًا بالخسارات التي يمنون بها أثناء العمل على الترجمة

الأمر برمّته لا يقلّ عن "مذبحة" كما يخبرنا سمير جريس، الذي ترجم عشرات الأعمال عن الألمانية، فيسّر لنا الاطلاع على "عازف البيانو"، لإلفريده يلينك، كما قرأنا بترجمته البديعة بيتر هاندكه، وباتريك زوسكيند، وستن نادولني، ومنحنا أجنحة طوّفنا بها طويلًا في عوالم أدبية جميلة، ليأتي اليوم ناشرٌ فيكافئه بمحاولة قصّ جناحيه، وكتم صوته، مترجمًا وإنسانًا.