01-فبراير-2017

مشهد لدراجات أمام بلدية بيروت (جوزيف عيد/أ.ف.ب)

تجاري بيروت كبريات المدن العالمية، هذا في الشكل. لكن في المضمون تبدو محاولات مجلس بلديتها إمعانًا مفرطًا في تقليص حجم العمل المدني واستباحة مكونات المدينة، واستغلالًا في المشاريع لمصالح ضيقة، أبعد ما تكون عن المواطن. بل هي ضمنًا تفيد طبقة سياسية محددة، لها استنفاعاتها الانتخابية، على حساب المواطن البيروتي وبالطبع للزوار القادمين إليها. لكن تبقى بعض المبادرات براقة، في بلد يستغل صورته "الآفلة" ليثبت دومًا أنه في الطليعة. وهذه إحدى مصائب لبنان وذهنية النافذين فيه. فتسمية "سويسرا الشرق"، التي أطلقت على البلد الصغير، مجرد نكتة يمجها اللبنانيون في السخرية من بلدهم الغارق في النفايات والمفكك مؤسساتيًا والقابع تحت سيطرة ميليشيات طائفية ومذهبية وحزبية، تزيد من اهتراء مؤسساته الحكومية وسرقة شعبه. فلا أحد يمكنه أن ينكر مرارة الواقع التنموي والبلدي، فضلًا عن تدهور الحياة السياسية وتحولها إلى "حفل جنون" يرهق البلد من تعطيل إلى الآخر.

"سويسرا الشرق" مجرد نكتة يمجها اللبنانيون في السخرية من بلدهم الغارق في النفايات والمفكك مؤسساتيًا والقابع تحت سيطرة ميليشيات طائفية

ومحاولة بيروت، التميز عن باقي المدن اللبنانية، كتبنيها مؤخرًا مشروع "الدراجات الهوائية"، لا يزيد عن كونه مشروعًا يهدف في تلزيماته إلى مبدأ الاحتكار والمحاصصة. ففي المشروع الذي جاء متأخرًا، مواكبة للمدن العصرية. هذا اعتراف أوليَ. حيث تم تدشين أول محطة لشبكة الدراجات الهوائية. وهو ما يجعل بيروت التي تضم أهم واجهة بحرية في المتوسط، مدينة توظف خريطتها المدنية لتكون ملائمة للبيئة ولوسائل نقل معتمدة في عواصم العالم. أيضًا هذا اعتراف في سياسة الترويج للمشروع. لكن ماذا يخفي خلفه؟ وهل فعلًا سيكون وفق معايير دولية؟ أم سيدخل مثل كثير من المشاريع في "البازار" التجاري بين حيتان المال؟، خصوصًا أن المشروع لم يخضع فعليًا لأي مناقصة بل تم تلزيمه، بشكل استنفاعي من مقربين من البلدية وتيارها السياسي.

اقرأ/ي أيضًا: إخلاء أبنية بيروت القديمة.. من يطمس هوية المدينة؟

تقول المصادر نفسها لـ"ألترا صوت" إن المشروع يبدو "سياحيًا" أكثر مما هو محاولة لمجاراة حاجة البيئة وحمايتها وتطوير لأسلوب حياة مدنية وتخفيف من كلفة الفواتير الصحية والبيئية. وترى هذه المصادر أن المشروع يبدو أنه لن يكون سوى ترويج من أجل الربح، كون لبنان لا يزال بعيدًا في ثقافة أهله للتعامل مع سائقي الدراجات الهوائية أو لاستخدامها، والأسعار التي وضعتها الشركة المشغلة عالية جدًا، ولبنان فعليًا يعاني من بنية تحتية غير مهيئة للدراجات الهوائية".

كل هذا يتقاطع مع النقاش الذي خاضه ناشطون على مواقع التواصل الاجتماعي، منذ يومين حول "نفعية" المشروع وقدرته على خروج القائمين عليه من "زاوية" المحاصصات والاحتكار القائمة في البلد المشهور بفساد مؤسساته الرسمية والخاصة على حد سواء. فهؤلاء الناشطون أنفسهم الذين وقفوا في وجه "المحدلة" وتظاهروا اعترفوا مرارًا بهزيمتهم (فالسلطة تتميز بشبكتها المتضامنة ضد المواطن)، فمن يمكنه أن يوقف يومًا المحاصصة في لبنان؟ خصوصًا أن البلدية ذات انتماء سياسي، واضح. فهي تستلهم توجهاتها من تيار المستقبل، وتعمل على خدمة أزلامه. والدلائل كثيرة. إذ ينتقد المجلس البلدي في بيروت على تعامله مع مشروع ردم الشاطئ بشكل استنسابي، ونفعي، من دون النظر إلى مصلحة المدينة وسكانها.

لزم مشروع الدراجات في بيروت إلى شركة تابعة سياسيًا لآل الحريري ولم تتم ضمن مبدأ المناقصة أو استدراج عروض

وفي التفاصيل، أن شركة Bike For All، افتتحت أمام بلدية بيروت، أولى محطّات مشروعها الجديد القاضي بإدخال نظام تشارك الدرّاجات الهوائيّة إلى لبنان، والذي ستنفّذه تحت إشراف البلدية بيروت ومؤسّسة Beirut By Bike. وهذا لب الموضوع. فالاحتكار استباح المشروع لجهة معروفة سياسيًا. ويقضي المشروع بإنشاء 25 محطّة تغطّي مداخل 23 كليّة مُنتشرة في بيروت والمناطق المزدحمة فيها، بسعة 10-12 درّاجة هوائيّة لكلّ محطّة (250-300 درّاجة)، بكلفة تصل إلى 400 ألف دولار أمريكي تتحمّلها الشركة المنفّذة مقابل إعطائها حقّ إشغال الأملاك العامّة مجانًا، على أن تستحدث البلديّة ممرّات خاصّة للدارجّات بعرض 80 سنتيمترًا على أربعة مسارات، هي: 1- بلس. 2- الحمرا مرورًا ببرج المرّ. 3- عين المريسة والمنارة، ومسار رابع تلتقي فيه المسارات الثلاثة الأولى في الحمرا، وصولًا إلى الصنائع ومرورًا بقريطم، على أن لا تتجاوز المسافة بين محطّة وأخرى ربع ساعة.

ووفق مصادر مطلعة على المشروع فإن البلدية، حتى الآن تمشي إلى تلزيمات احتكارية، بمعنى أن القائمين على بيروت "باي بايك"، سيكون لهم الأولوية في الإمساك بالمشروع الذي يتوقع أن يدر مالًا وافرًا. ومن المُفترض أن إطلاق المشروع سيقوم وفق نظام الـ PPP (وهي شراكة بين القطاعين العامّ والخاصّ) في مايو/أيار المقبل، أمّا الأسعار فمحدّدة بقيمة 5 آلاف ليرة للساعة الواحدة و25 ألف ليرة ليوم كامل، كما هو مدوّن على المحطّة التجريبيّة، على أن يكون الدفع عبر بطاقات الائتمان أو الاشتراكات الشهريّة والسنويّة.

اقرأ/ي أيضًا: "عشوائيات بيروت"... وجه المدينة الخفي

واحتكار المشروع من قبل شركة "بايك فور أول"، التي هي نفسها التي أطلقت مبادرات "بيروت بايك"، مملوكة من جواد سبيتي ومؤسّسة "تامر هولدينغ" لصاحبها غابي تامر الذي يُعدّ أحد أكبر وكلاء الدرّاجات الهوائيّة في لبنان، ومورّد Beirut By Bike الأساسي. أمّا المشروع الجديد فهو استكمال لمسيرة منظّمة من الاحتكارات تقودها "سوليدير" منذ أكثر من عقدين من الزمن. إذ لطالما عدَّ سبيتي، المحسوب على تيار المستقبل، الواجهة لسوليدير في مشروع تأجير الدرّاجات الهوائيّة في بيروت، بعدما استحصل على أرض على مدخل الـ Biel ومُنعت جمعيّات عدّة وتجّار درّاجات من الدخول إلى بيروت، لمصلحة سبيتي وتامر، نظرًا إلى غياب الشفافيّة في عقد الاتفاق.

ووفق مصادر "ألترا صوت"، فإن البلدية لن يكون لها أي دور، سوى تلزيم المشروع لسبيتي وتامر، ومراقبة المشروع وتنفيذه بشكل عملاني، وهو ما تم سريبه على أنه اتفاق ضمني بين سبيتي ومحافظ بيروت. خصوصًا أن المشروع لم يخضع لأي مناقصة أو استدراج عروض. فهل سيمتد هذا المشروع ليكون واحدًا من "مشاريع" المحاصصة في زمن بلدية "زي ما هي" إلى كل المناطق؟ ومتى سيكون للمجتمع المدني القول الفصل في مواجهة هذه المشاريع "النفعية" أو على الأقل الاعتراض على الكيفية القائمة في تلزيمها؟

اقرأ/ي أيضًا:

اقتصاد لبنان.. ما ذنب اللجوء!؟

السكن في بيروت.. طوبى للتشرد!