13-يونيو-2022
لقطة من حلقة "كيوبيد" (مسلسل هذا العالم)

لقطة من حلقة "كيوبيد" (مسلسل هذا العالم)

هي تجربة ممتعة تلك التي مررت بها أثناء مشاهدتي المسلسل السوري "هذا العالم" (إخراج عمار رضوان، 2007)، الذي رشّحه لي أحد الأصدقاء، وكان كفيلًا بأن يُدخلني في تجربة تفاعلية فريدة من نوعها مع كل حلقة من حلقاته.

يطرح مسلسل "هذا العالم" قضايا سياسية واجتماعية وثقافية وجندرية مختلفة، وتتمحور حلقاته حول الإنسان بصفته قضية مركزية كبرى

دفعتني حالة التفاعل التي دخلت فيها مع كل حلقة من حلقات هذا المسلسل، إلى إطلاق حكم تعميمي – قد أكون محقة أو مخطئة به – مفاده أن أي متلقٍ أو مشاهد للمسلسل، سيدخل في نفس حالة التفاعل التي دخلت فيها أثناء مشاهدته.

أما سبب إطلاقي لهذا الحكم، فيعود إلى طبيعة حلقات المسلسل التي تأتي على شكل لوحات تلفزيونية وأفلام قصيرة تتراوح مدتها بين دقائق معدودة، وقد تصل في أقصاها إلى نصف ساعة تقريبًا. ويمكنني القول إن المميز في هذه اللوحات والأفلام هو طبيعة طرحها العميق المتنوع والمتعدد، الذي يتراوح بين السياسي والاجتماعي والثقافي والجندري، ويتمحور حول الإنسان كقضية مركزية كبرى. فحلقات المسلسل، في مجملها، تستعرض قصص إنسانية أبطالها أناس عاديون وأحيانًا هامشيون. لكنها، مع ذلك، تفتح المجال للتفكير والتأويل والإسقاط على واقع أكبر وأكثر تعقيدًا.

ثمة عدة حلقات في المسلسل لفتتني ودفعتني إلى التفكير فيها وتأويلها، بل وإسقاطها على واقع وسياقات أكبر وأعقد. وأولى تلك الحلقات هي تلك التي جاءت تحت عنوان "كيوبيد"، الذي يشير إلى إله الحب عند الرومان، ذاك الذي يظهر دائمًا في القصص والأفلام طفلًا صغيرًا له جناحان، ويُلقي سهامه على العشاق ليوقعهم بالحب.

تُفتتح الحلقة بمشهد رجل يُدعى "رشيد" يزوره صديقه الذي يدعى "سامر" في غرفته، حيث يقف أمام النافذة ممسكًا بأحد أدويته واسمه "كيوبيد" لأغراض تنشيط القلب. يُمسك صديقه علبة الدواء ويتأملها ويجري بين الصديقين هذا الحوار:

  • كيوبيد، من شان شو هاد؟
  • من اسمه لازم تعرف.
  • كيوبيد إله الحب، عم تنشط قلبك يا ملعون.
  • عم وسّعله شريانه وانتا الصادق.
  • كيوبيد هو نفسه اللي كان يرمي قلبك بسهامه وهلأ عم..
  • يكفر عن ذنوبه.
  • قلبك بدو تصليح، قلبك اللي كان يدق متل الدربكة كل ما شاف صبية حلوة!
  • كان زمان.. كان زمان يا أبو سمرا.

تستكمل الحلقة بقية أحداثها التي تستعرض فيها أحوال رشيد بين زمنين؛ الحاضر الذي يأتي بلون رمادي باهت، والماضي الذي يأتي ملونًا بألوان زاهية. ويمكن القول إن اللون الرمادي الباهت الذي يُستخدم في الحلقة ليصف حالة رشيد في الحاضر، هو لون متوافق تمامًا مع واقعه الحالي وحقيقة الفجيعة التي يعاني منها، حيث توضح لنا أحداث الحلقة بأن رشيد أحب فتاة من غير ملّته تُدعى "جريتا"، ثم تزوجها دون موافقة أهلها، فعاش معها أيامًا سعيدة إلى أن جاء اليوم الذي استطاع فيه أهلها الوصول إليها وقتلها بدم بارد، ودون أدنى رحمة.

تنتهي الحلقة بمشهد انتحار رشيد وصديقه يقف أمام النافذة ذاتها التي كان يقف أمامها في الافتتاحية، يحدّثه عن ضرورة التفاؤل في الحياة، وأنها جميلة رغم قسوتها ومرارتها. ويمكن الجزم هنا بأن المشهد الختامي الذي يظهر فيه رشيد بينما يبتلع مجموعة أقراص من الدواء معًا، وصديقه يقف أمام النافذة يقابله بظهره ويحدّثه عن جماليات الحياة، يأتي ليقول إن منشطات القلب جميعها لا يمكنها أن تفعل شيئًا أمام قلب رشيد الذي فقد حبيبته. فهذه المنشطات حتى لو حملت اسم إله الحب "كيوبيد"، إلا أنها عاجزة عن أن تفعل فعله، كما لو أن سهامها التي كانت تطلقها نحو قلب رشيد في كل مرة يتناول فيها حبة منها، هي سهام تأتي بطريقة عكسية لا تنشط القلب وإنما تورثه مزيدًا من التبلد والجمود إلى حين توقفه، وكأن كيوبيد الذي يسكن الدوائية هو كيوبيد عاجز عن إحياء وتنشيط قلب أماته ظلم التقاليد والأعراف الاجتماعية، التي انقضّت عليه وأصابته في مقتل.

يستعرض المسلسل قصص إنسانية أبطالها أناس عاديون وأحيانًا هامشيون، لكنه تفتح المجال للتفكير والتأويل والإسقاط على واقع أكبر وأكثر تعقيدًا

الحلقة الثانية التي لفتتني هي تلك التي تحمل عنوان "خمس دقائق من العمر"، وتُظهر الحلقة مجموعة من الأشخاص المهندمين يجلسون على طاولة، ويقف أمامهم شخص بثياب رثة يوجهون إليه أقبح الشتائم والألفاظ والنعوت، ويستمرون في ذلك لمدة زمنية محددة يلتفتون خلالها إلى الساعة المعلقة وراءهم، والتي تتحرك عقاربها بشكل بطيء ومتوتر.

وبعد أن تُكمل عقارب الساعة دورانها في مدة خمس دقائق كاملة، تُظهر الحلقة ذلك الشخص، الذي كان يقف أمام أولئك الأشخاص بثياب رثة، جالسًا خلف مكتبه ببدلة أنيقة وأمامه الأشخاص نفسهم الذين يقول لهم: "هلأ نحنا عم نخليكم تحكوا ياللي جواتكم واتفضفوا لحتى اتفرغوا، قصدي لحتى اتفرغوا الشحنة اللي جواتكم".

تبيّن الحلقة بأن هؤلاء الأشخاص هم موظفون في شركة ما، وأن رئيس هذه الشركة يتيح لموظفيه، كل عام، خمسة دقائق ليفرغوا عن أنفسهم، ويعبروا عن رأيهم، ويقدموا اعتراضاتهم على شخصه وفساده. كما تبدو، في الوقت نفسه، محملة بإسقاطات على واقع أكبر وأكثر تعقيدًا، فهي تأتي وكأنها تروي قصة "فن التنفيس" الذي تم ابتداعه في عدة دول عربية بعد نكسة عام 1967، وكان يُقام أمام أعين السلطة وفي حضنها.

ويمكن القول إن "مسرح الشوك" في سوريا، الذي يُعتبر دريد لحام من أبرز رواده، هو أكبر تمثيل على هذا النوع من الفن فالمسرحيات التي قُدّمت ضمن إطار هذا المسرح كانت، جميعها، أقرب إلى هامش حرية يُسمح فيه للممثلين بالغضب والصراخ والاعتراض لمدة زمنية معينة، وتكون هذه المدة هي نفسها التي تنتقل فيها عدوى التنفيس إلى الجماهير المتابعة، فيشعرون خلالها بأنهم أحرار، وبأن هناك مساحة متاحة أمامهم للقول والتعبير. وكما هي الخمس دقائق الخادعة في تلك الحلقة، يأتي تعاطي الجماهير مع ساعات مسرحيات التنفيس – الخادعة كذلك – في قالب يضفي عليها صفة "ساعات من العمر"!

أما ثالث تلك الحلقات التي لفتتني، فهي حلقة جاءت تحت عنوان "ماري أنطوانيت"، وهي حلقة تحكي قصة امرأة تُدعى نادية التي تحتفل بعيد زواجها مع زوجها ومجموعة من أصدقائها، وجميعهم يرتدون أزياء تنكرية، بينما ترتدي هي فستان من أزياء ماري أنطوانيت.

يدخل الأصدقاء في لعبة مفادها أن يتحدث كل واحد منهم عن سبب اختياره للزي الذي يرتديه. وعندما يجيء دور نادية، تقول إن سبب ارتدائها للزي هو أنها تعتقد بأن ماري شخصية تم ظلمها تاريخيًا، إذ ترى بأن التاريخ الذي كتبه الرجال لم يركز في سرده لقصتها إلا على حادثة الخبز والبسكويت الشهيرة التي تأتي لتعكس سذاجتها وغبائها في إشارة تُضمر إلباس هذه الصفات إلى المرأة على العموم، حيث تقول موجهةً حديثها إلى أصدقائها الذكور أمامها: "أنا عم بدافع عن ماري أنطوانيت لإني بعتبر إنكم عم ترتكبوا خطأ أخلاقي بحقها مثلكم مثل كل هالذكور اللي في العالم". وتضيف: "انتو بدكم اتدافعوا عن تصوراتكم الذكورية المرضية".

تنطوي هذه الحلقة على العديد من الترميزات الجندرية، حيث توضح نادية بأن التاريخ الذي كتبه الذكور عمد إلى تأريخ بداية الثورة الفرنسية مع سقوط الباستيل، وتناسى كليًا مسألة العجز الجنسي عند زوجها الذي يمكن النظر إليه باعتباره أحد أبرز أسباب اهتزاز صورة العرش الفرنسي في عيون الناس وتجرؤهم على الثورة ضده.

ثمة عدة حلقات في المسلسل لفتتني ودفعتني إلى التفكير فيها وتأويلها، بل وإسقاطها على واقع وسياقات أكبر وأعقد

ورغم أن الحلقة تقع في فخ الترميزات الجندرية في صورتها الأكثر فجاجة عبر الربط بين العجز الجنسي كرمز وإشارة لعجز الأنظمة السياسية، إلا أنها تأتي في قسم منها لتوضح ذلك الظلم الواقع على المرأة، من تاريخ يروي العالم من وجهة نظر ذكورية كما يراه ويسمعه ويدركه الرجال.

وأخيرًا، يمكن اعتبار كل حلقة من حلقات مسلسل "هذا العالم" بمثابة واحة مخصصة للارتواء، يُقبل عليها المشاهد بكامل عطشه إلى الشعور والتعمّق، ولا يخرج منها إلا بعد أن يرتوي بالأحاسيس الإنسانية الفياضة تارةً، وبالمعاني الفكرية العميقة تارةً أخرى.