09-فبراير-2021

لوحة لـ وو قوانتشونغ/ الصين

1

لأنّ الليلَ منبتُ العاشقين، كنتُ كلّما خلدتُ إلى النوم مُبكرًا يكافئني وينبتكَ في تربة أحلامي ويجيئني بكَ على هيئة وردة، ولأنّني فهمتُ لعبة الليل، فقد عاودتُ استحداث عادة نسيتها منذ زمن، وصرتُ أخلدُ إلى النوم مُبكرًا ليأتيني بكَ وينبتكَ في تربة أحلامي مرارًا وتكرارًا، لقد أضحى بستان أحلامي مكتظًا بالورود، كلّها تُشبه بعضها، وتحدّثني بلسانٍ يدّعي أنّه لسانكَ، إنّني أمرّ على بستان أحلامي في كلّ ليلة الآن فلا أعرفُ أيّ وردة هي أنتَ، لا أعرفُ أيّهنّ تتقمّصك وتتقمّصها، ولا أدري أيهنّ تتلبّسك وتتلبّسها، لكني في هذه الليلة، قررتُ أن أعرفكَ رغمًا عن أنفِ الليل، سأخلدُ إلى النوم متأخرة، فيكافئني الليلَ بطريقة عكسية وينبتكَ في تربة أحلامي ويجيئني بكَ على هيئة شوكة، ستكون أنتَ شوكتي التي أحبّ، والتي لا أعرفها إلا بالاختلاف، ولا أعترفُ بها إلا بالمخالفة.

2

في الليل يَفتح كلّ لااكتمالٍ عينيه على حقيقته، يُزعجه لااكتماله، يقضّ مضجع الراحة فيه فيُصابُ بحالة هياج، هذه إحدى الحقائق البسيطة التي لم أكن أعرفها حتى البارحة، حينما سمعِتُ صوتَ أنينٍ وصراخٍ قويٍ قادمٍ من متون مشاريعي اللامكتملة، كلّ النصوص التي لم أُكملها، المقالات التي بدأتُها وتركتُ أسطرها الباقية تقاسي مغبة اللاامتلاء الموحش والمتوحّش، الأبحاث التي كتبتُ منها صفحة أو صفحتين وتَركتُ بقية أوراقها تسقط ضحية لفراغها الأبيض الخالي من الأحرف والذي لا تسمع في مساحته سوى صوت صرير الريح القادم من السريان في رحاب الأماكن المهجورة، كلّها انفجرت مرّة واحدة، وأسمعتني صوتَ اعتراضها بالأنين والصراخ والبكاء والانتحاب، ولأنّني كرهتُ أصواتها المزعجة تلك بحثتُ عن طريقة ما لإسكاتها، قرّرتُ أن أقدّم لها رشوة كلامية علّها تُصدّقها فتحجم عني صوت إزعاجها، تطلّعتُ إلى لااكتمالها كمن يتطلّع إلى مشروع اكتمال متحقّق لا محالة، قلتُ لها: لا أعوّل على شيءٍ كما أعوّل على اللااكتمال فيكِ، إنّني أثقُ بأنّكِ ستغدين أبهى اكتمالٍ عرفته وسأعرفه، لا أدري لماذا شعرتُ في تلكَ اللحظة بأنّ تلكَ الرشوة الكلامية قد أتت أكُلها وأنّ مشاريعي اللامكتملة تبتسمُ لي الآن ابتسامة رضا، ولا أدري لماذا خطرت على بالي لحظتها عبارة كتبتها يومًا وقلتُ فيها: يُنصفني كلّ من يُراهن عليّ، ربّما لأنّني كنتُ أقصد فيها الإنصاف الذي يأتي من الثقة فيّ، من التحديق في مشروع لااكتمالي، وفي التطلّع إليه عبر مراهنة تجزم بأنّه مشروع اكتمال متحقّق لا محالة.

3

يقظتي التي تصحو ليلًا، عينايَ اللتان تُكملان دورة احمرارهما الفاتن، ميلي نحوَ التجوّل في متاهات ظلمة نفسي الحالكة، كلّ هذا وما زلتَ أيها الخفاش ترفضُ طلب انضمامي إلى ملهاكم الليليّ!

4

نحنُ الوحيدات، المصلوبات على عقارب الساعات المنسية، سليلات الحزن النبيل والدموع التي لا يراها أحد، كلّما جافانا النوم في الليل تحسّسنا موضعَ أربع حجراتٍ تتوسّد القسم الأيسر من الصدر، ونفضنا عنها أرتال الغبار المتراكمة وكأنـنا نُحاول اكتشافها من جديد، ثمّ ناجيناها باسمها الأعظم الذي تتوحّد فيه مشكلة كيانها الجمعيّ قائلات: صبرًا أيها القلب، فإنّ موعدك الأنس.

5

في مرة من المرات زارتني في حلمي عجوزًا لا أعرفها، قالت لي: "لا تُضيعي الليل فيكِ"، وقبل أن أسألها عن معنى الليل في عبارتها تلكَ كنتُ قد استيقظت، ومنذ تلكَ اللحظة وعلى الرغم من تقديسي للمعنى وبحثي الدائم عنه إلا أنّني لم أحاول أبدًا أن أبحث عن ما كانت تقصده في كلمة "الليل"، غير أنني ونزولًا عند رغبتها (لن أقول نصيحتها لأسباب استعلائية مفهومة) صرتُ أراقبُ في داخلي ليلي الذي لا أعرفه، وكلّما تحسّستُ في داخلي مغادرة شيءٍ ما حسبته ليلي وأقنعته بالبقاء.

في كلّ مرة أفكّر فيها بتلكَ العجوز تحضرني كلّ تلك المشاعر والأحلام الآمال التي وقفت يومًا على عتبات مغادرتي ثم أقنعتها بالبقاء لأنني ظننتها ليلي الخاصّ، فأحدّث نفسي حينها كم هي مجدية أحيانًا فكرة الانقطاع؛ كانقطاع الأحلام قبل مغادرة العجائز، وانقطاع البحث قبل الوصول إلى المعنى!

6

لا تُحدّثني عن براءة نواياك وبُعدِها عن غايات الغواية، وأنتَ الذي تحضرُ أمامي دائمًا في كامل أبهتكَ الليلية؛ مستحمًا بماء الغموض، ومرتديًا قميصَ الصمت، ومتَّشحًا بالسواد، ومرافقًا للسكون، وتثقُ بأنّ امرأةً مسكونةٌ بالليل مثلي لا بدّ سيغويها امتداد الليل ورائحته فيكَ!

7

لنلتقِ في هذا الليل كغريبين، نُفصّل فيه ظلمته على مقاسنا، نوسّعها ونضيقها، نمدّها ونثنيها، نطيلُها ونقصّرها كما نشاء، إنّ ظلمة الليل العادية تبقى قاصرةً عن استيعاب احتياجات العاشقين، ونحنُ نحتاجُ إلى ظلمة مرنة تُلبي احتياجاتنا ونحنُ نحتمي تحتها، نُريدها ظلمة فيها حذاقة المردة الذين يسكنون المصابيح السحرية، تتطلّع إلينا فتفهم ما نريده وتُلبي دون حتى أن تسألنا، تَتمدد وتنكمش تنحني وتطول وتقصر وتتسّع وتضيق بما يليقُ بكلّ حالة من حالات العشق القصوى، نريدها أن تُشكّل نفسها لتستوعبَ الشوق واللوعة، والضحك والبكاء، والهمس والعناق، ثمّ في لحظات القُبَل الكبرى نريدها مزيجًا مُختلطًا من كلّ التفصيلات والأشكال؛ تَتمدد وتنكمش تنحني وتطول وتقصر وتتسّع وتضيق في نفس اللحظة، تُحيط بنا في انفجارها الكبير، مُعلنةً عن قيامة كونية صُغرى تولّدت على إثر قُبلة بين غريبين التقيا تحتها في الليل.

 

اقرأ/ي أيضًا:

عينُ الغبار

نزيف الذاكرة