11-يوليو-2019

فيكتور إهيخامينور/ نيجيريا

هذه ترجمة قصة قصيرة لللكاتبة النيجيرية ليزلي نيكا أريما (1983)، الحائزة على جائزة "كاين" للكتابة الأفريقية عن قصتها القصيرة بعنوان (Skinned). صدرت لها عام 2017 مجموعة قصصية بعنوان (What It Means When a Man Falls from the Sky) في المملكة المتحدة. تعيش الكاتبة حاليًا في ولاية مينيسوتا في الولايات المتحدة الأمريكية. 


 

ارتبكت يدا إيزنما بالمفاتيح وهي تحاول الاهتداء إلى شق القفل في الباب، دون أن ترى من أتى خلفها: أبوها، صبي طريّ العود، ينافس ليستأثر بحنان أمه. جدتها، منهكة من التخديم في بيوت نساء الحيّ، تكنس لهنّ وتغسل، وتشطف مؤخرات أولادهن، يهدّها التعب من زوجها المهووس بإكثار نسله، وعديد الرجال الذين قضت وطرهم كي تحقق له مراده، ترعى ابنها حتى الثالثة عشرة باهتمام ممرّضة مطحونة في روتين عملها، ثم تموت في سريرها، بتنهيدة طويلة خائرة.

تعامله زوجة أبيه كما يعامل أحدهم كلبًا شاردًا يتردد عليها حتى يصبح وجهه مألوفًا لها، لكنها تفضل الموت على أن تسمح له بالدخول. يرقص الاثنان أحدهما بجانب الآخر، يتقدّم الصبّي توثّبه الرغبة، أما المرأة فتحجل بعيدًا. لقد نشأت لتكون الكبرى بين العديد من الأخوة، وتعرف جيدًا كيف لاحتياجات الطفل أن تخنق أحلام أي فتاة. لا يرى الصبي سوى ظهر مدبر عنه، ولا يجد سوى الهجر والتجاهل، حتى من أبيه الذي أغشت عينه لهفة الرجل طال به العمر مع زوجة صغيرة تنعم بشيء حيّ بين ساقيها، لا يشاركها أحدًا. لما يبلغ الصبي الخامسة عشرة، يعود إلى البيت بعد مشوار إلى المتجر ليجد أغراضه قد وضعت في حقيبتين على عتبة الباب الخارجية. لا يكلف نفسه عناء أن يطرق ليعرف السبب، أو ليسأل عن المكان الذي يفترض أن يلجأ إليه. يذهب إلى بيت مهجور يأوي إليه أولاد مشردون، يجد فيه اثنين من قمصانه المفضلين سرقا قبل فترة، ويتعلّم هناك أن يحتفظ بنقوده في عبّه على الدوام. يبدأ يجوس الشوارع متسولًا، ثم يبيع الخردة يجدها في القمامة، ثم يتعلّم السرقة حتى يحترفها فتصبح أمله في تغيير حاله. يبدأ بسرقة أغراض حقيرة ونشل سريع من دكاكين صغيرة. ومع الوقت يتعلّم فتح الأقفال، وسرقة السيارات، وخفّة اليد.

في الحادية والعشرين من عمره، تندلع الحرب، وبينما الناس يتظاهرون في الشوارع يهتفون "بيافرا! بيافرا!"، يشرع هو بتكديس البضائع. حين يختفي بعضها من السوق، يبيع ويجني ثروة. حين يشحّ الطعام، يغزو على المزارع في جنح الليل، وهكذا يلتقي بزوجته يومًا، ولماذا كانت إيزنما، تتحسّس موضع المفتاح في القفل، لا ترى ما أتى خلفها: أمها في الثانية والعشرين، ينقصها الجمال، لكن لوجهها نضارة إنسانٍ لم يعرف الجوع قطّ.   

أمها فتاة رعناء، تأخذ أكثر مما يقدّم لها. عام 1966، أشهر قبل أن يتغير كل شيء، وهي في حفلة لأصدقاء والديها، ثمة رجل هناك، شاحب البشرة، أصفر كالمانجا، له فكّ مربّع، متين الجسد كأنه تمثال داود، ويبدو عليه أثر الثراء؛ النسوة العزباوات يمتشقن أسلحتهن (ابتسامات ماكرة، صدور مشدودة، شخصيات متمايعة) ويتحاربن من أجله. حين تنال الظفر عليهن، تظنّ أنها قد نالت أخيرًا ما تستحقّه.

بعد عام على علاقتهما، تندلع الحرب. شعبها موالون لبيافرا، وشعبه يظنون أن أوجوكوُو مغفل. في ليلة حفل ارتباطهما، لم يحضر سوى أهلها. وحين تعرج على بيته في اليوم التالي، تكتشف أنه قد غادر البلد.

لا تجد عائلتها بعد حين خيارًا سوى الهرب من المدينة، وسرعان ما بدأوا مضطرين بمقايضة ما استطاعوا حمله معهم، ثم سرعان ما وصلت بهم الحال إلى التسوّل، ولأول مرة في حياتها، تفتقد الطعام حتى إنها أخذت تتسلل إلى المزارع ليلًا لتسرق ما كان غضًّا من أكواز الذرة قبل نضجها، فتُغلى بالماء حتى تطرى فتُؤكل كلها مع اللبّ الليفي. في إحدى الليالي، تجد مزرعة صغيرة تقبع مستترة خلف تلة صغيرة، فتلتقي هناك برجل يسرق حبات بطاطا حلوة كانت ستكون من نصيبها. ليس ثمة فرصة للمنافسة: فهو قويّ مقتات، وحتى لو حاولت أن تفضحه فسيقدر على إخراسها فورًا. لكنه مع ذلك رفع أصابعه نحو شفتيه وأعطاها حبة بطاطا. ولمّا وجدت منه ذلك، أشارت إليه أن يعطيها فوقها حبتين. يعطيها الرجل حبة أخرى فقط، فتأخذها وتنطلق بعيدًا. في الليلة التالية تعود إلى المزرعة، فتجده في انتظارها. تجلس بالقرب منه، يسمعان هسيس الصراصير وأزيز أنفاسهما. حين يضع ذراعه حولها، تميل عليه وتبكي للمرّة الأولى منذ حفل خطوبتها قبل بضعة أشهر. وحين يضع حبة بطاطا في حجرها، تضحك. وحين يمسد يدها، تقول لنفسها، أنا أسوى ثلاث حبات بطاطا.

ستنجب ابنتين، ستسمي الأولى بيافرا، كأنها تنتقم منها، وتقول لها يا ابنتي، عّلقي آمالك على شيء هشّ آخر. والثانية على اسمها، وقد توفّيت ولا تعرف أن ابنتها قد سامحتها لاختيارها الطرف الأضعف وأسمت ابنتها الصغرى إزينما، وهي تتحسس بالمفتاح موضع القفل، ولا ترى ما كان وراءها: أختها، التي اعتاد الجميع على مناداتها بيبي، إذ ما السخف في أن تكون الطفلة سميّة دولة لا وجود لها.

بيبي، الجميلة بشكل لم تحظ به أمها قط. بيبي، العنيدة كما كانت أمها دومًا. تشاجرتا مذ كانت بيبي في رحمها، متكئة بكل ثقلها على عنق الرحم، حتى إن هرولة خفيفة كانت تكفي لقذفها منه. بدر الدّين، أم بيبي امتدّ أيامها لتبغضها، واهتاجت حتى كاد الجنين يغلي في بطنها. بعد ثلاث سنوات، إزينما، الجميلة، نعم، لكن بذاك النحو المعقول الذي لا يسبب أية مشاكل. إنها شبح لبيبي، باهتة في لهجتها وشخصها، لكنها حلوة كما تكون بيبي حين ترغب بشيء ما. بيبي لا تطيقها. كلا، لا يمكن لإزينما أن تلهو بألعاب بيبي. كلا، لا يسمح لإزينما أن تسير مع بيبي وأصحابها إلى المدرسة. كلا، لا يمكن لإزينما أن تضع فوطة، عليها أن تتدبر أمرها بالخرق. وهكذا تنشأ إزينما وهي ترنو لعطف أختها.

لما تبلغ بيبي الحادية والعشرين ويعاني والداها الأمرّين لتوفير رسوم الجامعة، تلتقي بغودوين، أصفر السحنة مربّع الوجه مثل أبيه، وتقع في غرامه. تمعن في الوقوع حين تنصحها أمها بالابتعاد عنه. حين تصر أمّها، وتخبرها بأنها لا تعرف شيئًا عن أهله وطبائعهم، تقول لها بيبي، أنا أعرف، يأكلك الغضب وتقتلك المرارة لأني سأحظى برجل أفضل من زوجك، فتصفعها أمها، وكانت تلك نهاية كلامهما. لأزينما دور وسط، أرغمت على أن تشغله منذ صباها، وظلت تنقل لبيبي جميع أخبار العائلة، رغم أوامر أمها بالمقاطعة التامة لها.

غودوين أيسر حالًا من أبيها، وهو الآن تاجر يشق طريقه بنجاح. يستأجر لها شقة، ويعيرها سيارة، ويأسرها بهدايا كثيرة، وأشياء لم تجربها من قبل قط، كإنفاق المال ونشوات الجنس. حين طرقت موضوع الزواج لأول مرّة، خرج غاضبًا وقاطعها لاثني عشر يومًا. اثنا عشر يومًا كشفت لها أنها لا تملك شيئًا، اثنا عشر يومًا تجلس في شقة باسمه، وتقود عربة باسمه، ما جعلها تتساءل عن قيمة هذا الاسم الذي يحمله ولا يرغب في التفضّل عليها به. حين رجع أخيرًا ورآها تحزم أمتعتها، أمسكها من شعرها، وجرّها إليه، صارخًا بأنها لا تملك شيئًا، وقد ضربتها قبضة يده، وإدراكُها أن أمها ربما كانت على حق.

لم يكن لالتئام الشمل بهجة. لا تستطيع بيبي فتح عينها اليمنى من شدة ورمها، وأمها صامتة لا تقوى على الكلام، ولا أحد ينظر إلى الآخر ولا يكلمه. أبوها، لم يطق يومًا العداوة بينهما، واندفعت في ذاكرته صور من طفولة شديدة الاضطراب، فوضع يده على كتف بيبي، ثم غادر، وبلمسته تلك انفجرت باكية، وراحت تنتحب، بينما أمها تحاول بوجه صخري أن تخفي دموعها تترقرق في عينيها. تأخذ أزينما بيد بيبي إلى الحمام، الذي تشاجرتا عليه صغارًا مذ بدأتا الكلام. تجلس على طرف التواليت، وتأخذ تمسح حول الكدمات التي ملأت وجهها. حين تفرغ من ذلك، يظل مظهرها مرعبًا. تقف بيبي لتتفقدها، فتظهر الاثنتان أمام المرآة. ما زال مظهري فظيعًا، تقول بيبي. هذا صحيح، تردّ إزينما، فتنطلق ضحكات مكتومة منهما، وتلاحظ الأختان أن لهما الابتسامة ذاتها. كيف مر كل هذا الوقت دون أن تلاحظا ذلك؟ تعجز كلتاهما عن الإجابة. بيبي قلقة على أغراضها التي ما تزال في الشقة، فتخبرها إزينما ألا تقلق، وأنها ستحضرها لها. لم لا تزالين لطيفة معي؟ تسأل بيبي. هذه عادتي، تقول إزينما. تصمت بيبي كأنها تفكر بجواب أختها، ثم تقول لها شيئًا لم تقله لها من قبل قط: شكرًا لك.

وهكذا ترتبك يد إزينما بالمفتاح أمام القفل، ولا ترى من أتى خلفها: غودوين، الذي ترعرع في رخاء أبيه المفسد. غودوين، الذي لم يعتد على سماع "لا" حتى صارت له مثل نثيث الأسيد، يحرق اللباقة المتصنعة لشخص يحصل دومًا على مبتغاه. غوديون، الذي حطّم التشيلو خاصته حين اكتشف أن أخاه يتفوق عليه بالعزف. لهذا قدم هنا، يراقب إزينما، التي تبدو شديدة الشبه بأختها من الخلف، ترتبك أصابعها وهي تحرك المفاتيح الغريبة في قفل باب شقة بيبي، ولا ترى من أتى خلفها: غودوين، بمسدّس يفرّغ طلقاته في ظهرها.

 

اقرأ/ي أيضًا:

ماثيو زابرودر: المطر يهطل مسالمًا مثل الخرز البلاستيكي

جمهورية صمّاء