14-نوفمبر-2015

تشيخوف في منزله في يالطا (Getty)

ولد تيم باركس في مانشستر عام 1954، نشأ في لندن ودرس في كل من جامعتي كامبريدج وهارفارد. ألف باركس العديد من الأعمال الأدبية وغير الأدبية، منها "أوروبا" المدرجة في القائمة القصيرة لجائزة البوكر عام 1997. فازت روايته الأولى "ألسنة اللهب" بجائزة بيتي تراسك عام 1986. عمل مدرسًا ومترجمًا، درس الترجمة الأدبية والتقنية في الجامعة المستقلة للغات المعاصرة بالقرب من مدينة ميلانو. من بين ترجماته أعمال لألبرتو مورافيا، وأنطونيو تابوكي، وإيتالو كالفينو، وروبيرتو كالاسو.

المقال أدناه منشور في مدونة لجامعة أكسفورد.


"لا تبحث في حياة الكاتب. لا تفكر بنواياه أبدًا". هذا ما كانت تقوله التعليمات لكتابة نقد أدبي في المدرسة والجامعة. كأن النص مادة مجردة يعمل على تحليل ماهيتها، دون إشارة إلى مصدرها. ما وهَب للناقد شرف العالِم. من المفاجئ أنهم لا يطلبون منا ارتداء معاطف بيضاء.

عندما نقرأ العديد من الروايات لنفس الكاتب، لا يمكننا إلا أن نلمس حضور شخص الكاتب

في غضون ذلك، لم يُذكر القارئ الفرد قط. حقيقةَ أن آراء الناس تختلف حول الأعمال الأدبية، أو تتباين ردود أفعالهم إزاءها، لا يلزم أن تلقى اهتمامًا. يهتم النقاد بالموضوع وليس بالعواقب. هل يعني هذا شيئًا على الإطلاق؟ إعتاق النص الأدبي من وقائع إنتاجه واستهلاكه، والتحدث عما هو جوهريًا فعل اتصال دون التأمل بالشركاء بالمقابل؟

كانت إحدى المشاكل فظاظة المعالجة السيرية كما فعلت بعض المعاهد الأكاديمية في الخارج، لكن بادئ الأمر عندما وصمت من قبل الأساتذة. يحذر موقع جامعة هيوستن طلابها: "مغالطة سيرية هو الاعتقاد بأنه يمكن للمرء شرح معنى عمل أدبي، بالتأكيد على أنه يدور حقًا حول أحداث في حياة الكاتب. يرتد النقاد السيريون من العمل الأدبي إلى سيرة حياة الكاتب لمحاولة إيجاد أحداث... تبدو مشابهة لسمات العمل وثم يدَّعون أن العمل (يعيد تقديم هذه الأحداث...) تخمين مفرط في التبسيط عن (محاكاة) شكلية جديدة".

الناقد السيري هو ساذج رُهابي. من ذا الذي يحلم بالانشغال بمثل هذا المشروع؟
ولكن... عندما نقرأ رواية، أو أفضل من ذلك، عندما نقرأ العديد من الروايات لنفس الكاتب، لا يمكننا إلا أن نلمس حضور شخص الكاتب، حالة ذهنية خاصة، مع جميع التباينات بين هذه الكتب إلا أن علاقة تربط القراء به وهم يقرؤون. لهذا السبب تتفوق شعبية السير الأدبية على النقد الأدبي. يرغب القراء أن يعرفوا المزيد عن العقل الذين كانوا على اتصال به. كنت أبحث لسنوات عن طريقة أنظم بها وأمنح بعض الاحترام الفكري للنقد الذي يظل واعيًا لكل من حياة الكاتب وردود فعل القارئ الفرد، طريقة تحتضن العملية برمتها من كتابة وقراءة، من الفكرة إلى الاستهلاك.

ربما يكون التبصر مكان مناسب للانطلاق، في أن الطريقة التي يتبعها الكاتب في الكتابة ستكون مرتبطة بأشكال السلوك في حياته/ها، ستكون حقًا جزءًا من ذلك السلوك، جزءًا من الموقف الذي يتخذه الكاتب تجاه العالم. كتابة قصيدة أو رواية ونشرها، في حد ذاته حدث في الحياة لا ينفصل عنها، حدث يمكن أن يبدل العلاقات التي تصوغ عالم الكاتب.

الطريقة التي يتبعها الكاتب في الكتابة ستكون مرتبطة بأشكال السلوك في حياته

لكن يكفي تمهيدات مجردة. اسمحوا لي أن أقدم لكم تشيخوف في تدوينة صغيرة. مبعد عن عائلته في الفترة الممتدة بين عمر السادسة عشر حتى التاسعة عشر، عاد تشيخوف إلى مركزها من خلال كتابة القصص. مبعدًا الأب الذي كان سببًا للكدر. هاربًا من سداد الديون، كان والده السلطوي قد أخذ العائلة إلى موسكو تاركًا ابنه الثالث (من بين ستة أبناء) ليحل أموره الفوضوية في مرفأ قروي في تاجنروج. بعد ثلاث سنوات لحق تشيخوف بإخوته في قبو رطب وبارد وكتب لهم الخروج من هناك. 

بين عمر العشرين والثامنة والعشرين نشر خمسمائة وثمان وعشرين قصة، واشترى بمردودها منزل عائلته الكبير في الريف. وصار هو رب الأسرة. سيمضي حياته مع أمه وأخته وإخوته الأصغر سنًا، ستكون كل كتاباته عن الانتماء والإقصاء، الحرية والسجن. في العلاقة والعائلة والجماعة، تخشى شخصياته أن يتم إقصاؤها عنها، أو تتوق للتحرر منها. بحرية، يعثرون على عزلة، على سجن.

شعر تشيخوف في الريف بالملل وتوجه إلى موسكو. كانت الرفقة مشتهاة كثيرًا. شعر في موسكو بأنه مسحوق وعاد إلى الريف. كانت الرفقة شديدة الابتذال. ثم دعا الأصدقاء إلى الريف. وبنى لنفسه منزلًا صغيرًا بالقرب من البيت الكبير حتى يتمكن من التحرر من أصدقائه. تحدث نقطة التحول في قصصه عندما تبدو العلاقة أو الحرية المرغوبة مثل سجن مكافئ للحالة السابقة أو أكثر سوءًا.

بدأ تشيخوف الكتابة كبديل مؤقت أثناء دراسته الطب. ثم تراوح بين المهنتين. منحه الطب صلة بالحياة لكن الحياة كانت ساحقة. لم يتمكن تشيخوف من إيجاد موقف متزن من النظرة إلى الانتماء، والعلاقات مع المجاميع. في نفس الوقت، ضخمت الكتابة هذا التقلقل ومنحت لكاتبها شكلًا من انتماء آمن: عمله شهير للغاية لكنه ظل منفصلًا عن معجبيه.

أضحت الكتابة، عند تشيخوف، مهارة للبقاء على قيد الحياة، وشكلًا من أشكال الحرية والعزلة

يقول تشيخوف بأنه يريد "أن يكون حرًا، ولا شيء آخر". لكنه يريد أيضًا أن يتزوج. هو يخشى الزواج: "كل الألفة، التي تعمل في البداية على تلوين الحياة بشكل لطيف جدًا تتطور لا محالة إلى مشكلة دائمة على قدر كبير من التعقيد". إذن عبِث وكانت له علاقات غرامية، القصة القصيرة هي مغازلة، علاقة موجزة، كلما طالت قصة تشيخوف تصبح أكثر سوداوية. يجرب كتابة الروايات لكنه لا يتمكن من إنهائها، إنها سجن الآن، يبدأ بكتابة المسرحيات التي تمنحه علاقة مقربة من الممثلين والجمهور.

على وشك الزواج عام 1889، يولي تشيخوف هاربًا إلى مستعمرة جزيرة سخالين الجزائية حيث قابل لمدة ثلاثة أشهر مائة وستين سجينًا في اليوم، يحضر ملفًا لكل واحد منهم ويدون الملاحظات عن السخرة، وبغاء الأطفال، والجلْد. لم ينس طوال حياته أبدًا ضرب أبيه له. يمكننا أن نعتبر قصصه التي تزيد عن ستمائة قصة ملفات عن سجناء أو عمن يسجنون أنفسهم في الحب، العمل، الأبوة، السياسة، أضحت الكتابة بشكل أساسي مهارة للبقاء على قيد الحياة، شكلًا من أشكال الحرية والعزلة التي تربطه رغم ذلك بعلاقة مرضية مع الآخرين.

من نافل القول إن رد فعل القارئ سيعتمد بشكل كبير على موقفه من العلاقة مع مسألة الانتماء.

 

اقرأ/ي أيضًا:

الجبناء والتاريخ.. نظرات حول الحروب ودوافعها

دانتي يبلغ عامه الـ 750