07-أغسطس-2020

تسبب الانفجار بخسائر اقتصادية هائلة (Getty)

قبل أن نتجاوز الجسر الذي يطلّ على مرفأ بيروت، يجب أن نحصي الخسائر في المرفأ نفسه. وهذه مهمة شاقة، وغير ممكنة في الظروف الحالية. ما يمكننا فعله هو السير في المرفأ وفي تاريخه الاقتصادي، ومحاولة إحصاء ما يمكن احصاؤه، وملاحقة ما سيتبدى من خسائر. لكن قبل كل شيء، ربما يمكن التوقف عند تصريح المدير العام للجمارك، بدري ضاهر، وهو ما صار شهيرًا أخيرًا. في أوائل أيار/مايو من العام الفائت، تحدث ضاهر عن "المزادات" وعن "الفساد في الإجراءات". الفساد ليس غريبًا على اللبنانيين، وما هو غريب فعلًا، أن ضاهر قال إن الجمارك ستبيع البضائع التي ستترك في المرفأ خلال 6 أشهر للمحافظة على قيمتها، واسترداد المساحات المشغولة ببضائع متروكة من دون أي قيمة، لأنها تخسر من قيمتها بالبقاء، وبالتالي تسبب الخسائر لخزينة الدولة.

الخسارة تاريخية بالدرجة الأولى، فنحن نتحدث عن معلم. لكن الحجم الاقتصادي للخسارة قد يتجاوز النوستالجيا

توقع المدير المتفائل أن تصل قيمة المبيعات إلى أكثر من نصف مليار ليرة، على أن يكون لدينا عشرة مليارات حتى ننتهي من قيمة البيع. ليست هذه أرباحًا خسرناها، ولسنا نبحث الآن عما خسرناه في البضائع المتروكة. ما يثير الدهشة هو أن المواد المتفجرة، بمعنى ما، كانت بضائع متروكة أيضًا. أما المزاد "الأولي"، فرأينا نتيجته في 4 آب/أغسطس.

اقرأ/ي أيضًا: ماكرون من بيروت: لن نقدم شيكًا على بياض

لا نتحدث عن مرفأ عادي. نتحدث عن أحد أهم موانئ الحوض الشرقي للبحر الأبيض المتوسط. الخسارة تاريخية بالدرجة الأولى، فنحن نتحدث عن معلم. لكن الحجم الاقتصادي للخسارة قد يتجاوز النوستالجيا. كان يتعامل هذا المرفأ يوميًا مع ثلاثمئة مرفأ حول العالم، ويستقبل أكثر من 3000 سفينة سنويًا، بمعدل شهري متوازي. الحدود البرية الوحيدة المتاحة للبنان هي الحدود مع سوريا، وقد تحول جزء أكبر من عمليات الاستيراد والتصدير إلى مرفأ بيروت، بعد ما آلت إليه الأمور في سوريا. وذلك لا يلغي أن المرفأ في الأصل هو المركز الأساسي لعمليات لبنان التجارية، حيث كان يدخل منه أكثر من ثلثي البضائع. نتحدث عن أربعة أحواض ترسو فوق 25 مترًا، ولكن العمق لم يعد لديه أي معنى. حتى المساحة الحرة، التي تبلغ مساحتها 81 ألف متر مربع تعطلت، إلى جانب 16 رصيفًا، والهنغارات والمستودعات وإهراءات القمح.

مشهد لمرفأ بيروت بعد الانفجار (أ.ف.ب)

مبدئيًا نتحدث عن نوعين من الخسائر الاقتصادية. الخسائر المباشرة، أي كلفة إعادة إعمار المرفأ وبنائه، ومعها أيضًا كلفة العمل الذي ينجزه المرفأ. حتى الآن وحسب المحللين الاقتصاديين، نتحدث عن مليارات الدولارات. ذلك أن الحركة التجارية لن تتوقف لأقل من عامين، في أفضل تقدير. وهذا تقدير شديد التفاؤل. لسنتين لن تكون هناك رسوم جمركية، ولن تكون هناك بضائع تصدّر إلى الخارج، أو تدخل إلى البلاد بالوتيرة ذاتها التي كانت بطيئة أصلًا.

بالأرقام كانت إيرادات المرفأ توازي 90 مليون دولار أمريكي في عام 2005، وهو أحد أصعب الأعوام في تاريخ لبنان بعد نهاية الحرب الأهلية. في 2018 حقق المرفأ أرباحًا تجاوزت 300 مليون دولار أمريكي، قبل أن يتراجع الرقم بثلث هذا المبلغ في العام اللاحق، بالتزامن مع الانكماش الاقتصادي الرهيب الذي حلّ بالبلاد. قبل عامين فقط، ورد عبر مرفأ بيروت 7 ملايين طن من السلع، وهي توازي ثلاثة أرباع السلع الواردة. الخسائر غير المباشرة، قد تكون الخسائر الكبيرة في الميزان التجاري. ستكون في تراجع الصادرات، لأن 80 بالمئة تقريبًا من صادرات لبنان (القليلة أصلًا) تخرج عبر مرفأ بيروت حصرًا. أما في إهراءات القمح، حيث قضى العمال آخر أيامهم، ولم تسمع الدول أصوات استغاثتهم، وتأخر رفع الأنقاض، فلا يفترض أن يتوقع اللبنانيون أن يعود كل شيء على طبيعته سريعًا. صحيح أن هناك حديث عن مخزون كاف لدى الأفران، ولكن هذه مجرد تصريحات، والقمح الموجود في المرفأ تلوث تمامًا.

التأخر في عودة المرفأ يعني خسائر إضافية. كل دقيقة إضافية هي خسارة. وقبل الحديث عن الأرقام، يجب الحديث عن المناخ. الأرقام الصحيحة قد تتجاوز الأرقام المعلنة بكثير، وقد يتطلب الأمر أكثر من 15 مليار دولار لإعادة بيروت ومرفأها إلى النهوض، وهذا يتطلب مناخًا سياسيًا مختلفًا تمامًا ووجوهًا مختلفة تمامًا عن المجموعة التي تسببت بالانفجار.

في الأصل قام الاقتصاد اللبناني على الاستيراد. لكنه مثل معظم دول العالم، يستورد المحروقات والطحين والدواء. هناك شائعات تلامس الجدية عن احتراق مستودعات الأدوية المستعصية في المرفأ مثلًا. وهناك المواد الجاهزة للاستهلاك مثل المواد الغذائية، أو كل شيء آخر يتم تصريفه في السوق المحلية، مثل الملابس والأدوات الكهربائية، إلخ. وهناك مواد تستخدم في القطاعات الإنتاجية، مثل الصناعة والزراعة.

طائرات تحاول إطفاء الحريق بعد الانفجار في مرفأ بيروت (أ.ب)

حسب خبراء اقتصاديين، كان هذا المرفأ "يلملم" الخلل البنيوي في الاقتصاد اللبناني، والمتمثل بالاتكال على الاستيراد، والاعتماد الكلي والتام على الخارج. وإذا وضعنا كل هذا جانبًا، أي كلفة العنابر المحترقة، وما بداخلها وصعوبة تأمين حاجات السوق المحلية عبر مصادر أخرى، فهذا لا يعني أننا انتهينا من جولة الخسائر. الخسائر الحقيقية ستبدأ في الخارج، في ظهر المرفأ، أي في المدينة المنكوبة التي كان يحرسها. لا نتحدث عن بضائع علقت في المرفأ قيمتها لا تتجاوز ملايين الدولارات، بل عن مستقبل المدينة بلا رئتها. في الداخل لن تكون هناك شركات، وهي كانت قد بدأت بالإفلاس والانتقال بالفعل. أما المساعدات والمؤتمرات فهذه يعرف اللبنانيون أين ستصرف، وكيف ستتعامل النخبة الحاكمة معها.

اقرأ/ي أيضًا: فورين بوليسي: انفجار مرفأ بيروت هو "تشيرنوبل لبنان" 

بقليل من العاطفة، وإذا تجاوزنا المرفأ والجسر، ووصلنا إلى شارعي الجميزة ومار مخايل، فإن أول ما سنتحدث عنه هو كلفة الذكريات. وقد ننتبه إلى أن كلفة الديكور والتجهيز وبناء السمعة في المحال والمحلات، وكلفة الحياة والعلاقات التي أقامها زوار الشارعين مع المكان فد تعوض، وقد تختفي. سرعان ما سننتبه إلى أن حياة كاملة هنا ستحتاج إلى سنوات لتعود كما كانت.

البيوت المتصدعة والتي كانت هدفًا للمضاربين العقاريين في الأصل، الشوارع التي أخلاها السكان، السيارات التي تكسرت، محتويات المنازل، البنى التحتية من طرقات وكهرباء، كل شيء تبخر

البيوت المتصدعة والتي كانت هدفًا للمضاربين العقاريين في الأصل، الشوارع التي أخلاها السكان، السيارات التي تكسرت، محتويات المنازل، البنى التحتية من طرقات وكهرباء، كل شيء تبخر. وهذا يمتد بدرجات متفاوتة إلى العاصمة وضواحيها، وكلفته المادية بالمليارات. فيما يخص الجميزة ومار مخايل، ربما تكون تصريحات العاملين في القطاع السياحي مفيدة. حسب هؤلاء فإن قيمة الخسارة في القطاع السياحي وحده ـ وهو الخاسر أصلًا ـ من انفجار المرفأ، ستتجاوز المليار دولار. بمعنى ما كان الانفجار أشبه برصاصة الرحمة على الاقتصاد المريض. لكن اللبنانيين ليسوا وحدهم من يحاولون لململة الخسائر، وأهمها في الأرواح، وبعد ذلك في العلاقة مع بيروت ثم في الاقتصاد. هناك النخبة الحاكمة نفسها التي تحاول إعادة ترتيب مصالحها التي تتوزع بين حماية ما تبقى من متفجرات قد تكون موجودة، وبين الاستعداد للانقضاض على أية مساعدات قد تأتي باسم اللبنانيين.