17-أبريل-2019

سامية حلبي/ فلسطين

اعتدت أن أجلس على هذه الطاولة كلما أتيت إلى هذا المكان، طاولة في الزاوية البعيدة عن الطريق يخبئها عمود فلا يراني إلا قليل في المقهى، حتى أنني أطلب ما أريد فور دخولي قبل الجلوس، لأنه وفي أكثر من مرة أجلس ثم لا يأتيني النادل ليسأل عن طلبي. ثم حدث في يوم خريفيّ أن جاء شخص هادئ الملامح، ألقى التحية ثم سأل: كم الساعة؟ أجبته فشكرني وغادر. لم أكن لأعبأ به لولا تكرار المشهد مدةَ أربعة أيام متتالية، يجيئني فيسأل فأجيبه فيغادر. في المرة الخامسة، وقد شعرت أنه من الممكن أن يكون من الذين ينغّصون على الشخص مزاجه، وأنه لا ينوي معرفة الوقت إنما الاستظراف الزائد عن الحد، ارتفعت نبرة صوتي بسؤال استنكاريّ عمّا يقوم به، فأزاح الكرسيّ وجلس، ثم حدّق بي بضع ثوان قبل أن تنفرج شفتاه ويتكلّم:

"يا صديقي، أنا لا أعرفك، وأنت لا تعرفني، ولا أتذكر صراحة أنني سألتك من قبل عن الساعة، أو أنني قد رأيتك هنا قبل الآن، إن كان لديك متسع من الوقت فاسمح لي أن أسرد قصّتي عليك." هززت رأسي موافقاً، ثم تابع: "أنا، أنا رجل مصاب بمرض، لا أعلم إن كان هناك أحدٌ غيري مصابًا به، أنا شخص أملك ذاكرة مدتها يوم واحد فقط، يوم واحد لا غير، ثم لا أستطيع العودة لما حدث قبل خمس وعشرين ساعة مثلًا، لا أتذكر من قابلت البارحة، ولا أين غدوت".

كان يتكلّم بطريقة أقل ما يمكنني أن أصفها بأنها طبيعية، أو نقية، كان في كلامه وجع يكبر مع كل كلمة يقولها، وهذا ما جعلني أكذّب ما يجول في خاطري وأن أصدّقه. 

قال: "أتوقع أنك تسأل نفسك كيف أعود إلى بيتي، وكيف أعرف أصلًا أنني مريض بما أنني لا أتذكر، ألا تفكر بهذا؟ نعم نعم أنت تفكّر، هذا شيء مؤكد، سأجيبك". ثم تناول دفترًا من حقيبته، وجعلني أقرأ ما كتب في أول صفحتين، كانت رسالة تشبه استشارة طبية تصف حالته المرضية، يبدو أن أحد أقربائه قد كتبها له ليخففوا عن أنفسهم مشقة إخباره اليوميّ بمرضه، فيقرأ كل صباح ما هو مكتوب، فيها: "الشخص الألطف في هذا العالم، نحن مرضى، ونحبّك، حاول أن تتذكرنا، ولا تتركنا، مرضنا أننا وإياك لا نتذكر ما حدث البارحة".

نظرتُ إليه مهزوزًا، في المكتوب كذب خفيّ، هو المريض لا غير، ولا أدري إن كان يعلم أم لا، لكنني تركت له حرية الكلام والانطلاق، كانت في عينيه رواية، قال: "قرأت هذا صباحًا، وسيأتي أخي ليصحبني في الساعة السابعة، لكنّني قبل قليل خطر في بالي شيء مخيف، مخيف يا رجل، إن كنت حقًا هكذا، فهذا يعني أنني لن أتذكرك غدًا، ويعني أنني سأمر جانبك دون أن أطرح التحية عليك، ستتذكرني أنت بدورك، وتحاول تعريفي بك فتفشل، ليس أنت من يهمّني صراحة، ما أفكّر فيه أنه ماذا لو وقعت في الحب مرة؟ ثم سكتْ، كانت دقيقةٌ وددت لو أنها تحذف أساسًا، لم أر أحدًا بمثل حزنه وقتها، لم يبكِ، لكنّ عينيه شاختا فجأة، حتى عاد للكلام بصوت خفيض: "إنها مشكلة يا صديقي، أن أحبّ ثم لا أستذكرها، ولا مشاعري تجاهها، أنا لست فاقداً للحب، أنا فاقد للذاكرة، أنا لست مثلك، ربّما تتذكر حبيبتك، وتحاول أن تنسى، وقد لا تستطيع، أو تستطيع، وربّما قد ذكّرتك بها الآن، لكنّني لا أعرف كم فتاةً أحببت، ولا أتذكر لا شكلًا، ولا كلامًا، ولا مشاعر، لا تحسدني، أنا أحسدك، صحيح أن جزءًا من ذاكرتك متروكٌ لها، ولا تستطيع التخلّي عنه، وقد يؤلمك، لكن في لحظةٍ ما، ستبتسم لأنك تذكرت، لأن بضع أحداث جميلة ربطتك بها، أما أنا فلا أملك إن أحببتُ سوى أن أحبّ بضع ساعات، أن أعجب، فيهوي قلبي، نمشي، نضحك، نفرح، تقول لي أحبك، وأقول لها أحبك، نتودع مرة واحدة، وإلى الأبد، ثم عندما أصحو من المؤكد أنني لن أتذكر، وربما أبدأ قصة أخرى"، كان يبكي، ثم وقف وطلب أن يحضنني، وقفنا قليلًا، ثم استدار وقال: "أنا لست مريضًا بالذاكرة، أنا مريض بالحب".

 

اقرأ/ي أيضًا:

سأدخنكِ حتى الصباح

ما بين حالين: زينة وذاكرة