24-أكتوبر-2016

مقطع من لوحة لـ مروان قصاب باشي/ سوريا

"بدها تكون سنة 1946 ربما أو 1945، زرت بيت صديق لي كان أبوه رسامًا نساخًا، يعني هو كان كاتبًا في متجر ولكن هوايته كانت الرسم، دخلت البيت لغرفة دمشقية يدخلها نور خافت من الشارع ومنتصب فيه حامل يعني هذا اللي يقولوا عنه السيبة، وعليه لوحة صغيرة نسخة لبحر الشمال من مونيه وكانت الـPalette حاملة الألوان، أو كما يقول مائدة الألوان، عليها هضاب اللون الأصفر الأحمر الأخضر مع رائحة البخور من التربنتين Turpentine، فشعرت بسحر عظيم في تلك الغرفة بذلك النور الساحر إلى الألوان إلى تلك اللوحة مع الصخرة والبحر؛ شعرت بشعور أيروسي عجيب وقلت لنفسي: أتمنى أن أموت تلك اللحظة لأني سوف لا أمر بتلك السعادة مرة أخرى.

قالوا إن الوجوه كانت تسلم مروان قصاب باشي جغرافيتها السرية على قماش لوحاته

اقرأ/ي أيضًا: مروان قصاب باشي.. الرحلة الأبدية الأولى

قلت يا عمو منين بيشتروا هذه الألوان؟ فقال لي: يا ابني هذه بيشتروها من مكتبة الكزبري على طرف نهر بردى. أخذت الخرجية (المصروف) وركضت اشتريت، قال لي الرجل: بتحتاج للأزرق والأصفر والأحمر والأبيض ومن هالألوان الثلاثة بتخلق الألوان الأصفر مع الأزرق يأتي الأخضر والبنفسجي إلى آخره، أخذت الخرجية واشتريت فرشايتين للألوان ومنذ ذلك التاريخ لم أقف حتى اليوم عن الرسم".

ظل مروان قصاب باشي (1934-2016)، الفنان السوري العظيم، بعد تلك الحادثة سبعين عامًا يرسم، وفي كل مرة كان يغرق بسحر الألوان الممزوجة برائحة البخور، لأنه سوف لا يمر بتلك السعادة مرة أخرى، لكنه قرر أن يموت بعد أن أنهى سعادته مع الالوان وخذله عشقه الأيروسي. 

كان يفترض بهذا العشق أن يحلق به بعيدًا عن كوكبنا، وينقله إلى عوالم الخيال والتجريد، لكن إن خطر لك أن تخوض تجربة فريدة وتنقل نظرك بين لوحاته ستدرك أن الأيروسية عند هذا الفنان حالة متميزة، لأنه سيلصق روحك بهذه الأرض ولن يدعها تحلق؛ ستعرف من خلالها مأساتنا ووحشية بني البشر، سيعرينا هذا الفنان تمامًا ويكشف حقيقة دواخلنا؛ جربوا أن تنظروا في عيون أشخاص لوحاته، أو ركزوا على وجناتها مثلًا، أو تسريحة الشعر، أو حتى تموضعات زوايا الفم وشكل الأنف؛ في كل تفصيلة وبقعة لونية يتركب منها تفاصيل الوجوه قصة وحكاية، إنه التجريد الأكثر واقعية على هذا الكوكب.

تعلم مروان قصاب باشي منذ عصر سعادته الأولى في مرسم والد صديقه كيف يمزج الأنا بالأرض

اقرأ/ي أيضًا: ستيف ديلون .. صانع خيالات "الكوميكس"

قالوا إن الوجوه كانت تسلمه جغرافيتها السرية على قماش لوحاته، ولا أحد غيره يستطيع فضح حقيقتها الكامنة، قال مروان قصاب باشي: "ذات ظهيرة كنت مستلقيًا أستريح بمرسمي الأول الذي كان قاعة كبيرة عندي في بيتي بالأولاند شتراسه في ألمانيا، حضر لي أن رأسي؛ وجهي هو منظر؛ هو مجاز أرضي؛ هو أمي، ولكي لا أضيع الفكرة نهضت وعملت التخطيطات السريعة بسرعة وجه أفقي مليء باللوحة العرضية، باعدت العيون عن بعضها البعض، وصارت سمات الوجه الموجودة التي أخذتها تفاصيلها مني كأنها هي سمات أرض".

فنه يخلو من الحذاقة الفنية أو اللعب أو التلاعب، هو فقط تعلم منذ عصر سعادته الأولى في مرسم والد صديقه كيف يمزج الأنا/الهوية بالأرض ليعود ويندس في ألوانها الحقيقة.. ألسنا من تراب وإلى التراب نعود؟ بالأمس رحل عنا مروان قصاب باشي، عاد إلى تراب الأرض، ذلك الذي يمكن أن يكون لونًا ساحرًا؛ وقبرًا أيضًا.

اقرأ/ي أيضًا:

رحيل نذير إسماعيل.. ضابط إيقاع الوجوه

نذير نبعة.. مرسومًا بتراب الأرض