04-مايو-2020

تجمع أمام منزل الضحية فواز السمان في طرابلس بعد مقتله خلال المظاهرات (Getty)

تقريبًا صار واضحًا للمهتمين الجديين بالتاريخ اللبناني، أن جبل لبنان لم يكن تسمية تحمل الدلالة الجغرافية نفسها دائمًا، في القرنين السابع عشر والثامن عشر كان يُقصد بجبل لبنان هذه المناطق تحديدًا: بشري، البترون، بلاد جبيل، وهي مواطن الموارنة الأساسية، حتى بلاد كسروان، وهي مادة خفيفة لخلاف تاريخي نائم بين جماعتين دينيتين أساسيتين، أي الشيعة والموارنة، كانت تقع في "المنطقة الجبلية الوسطى"، حسب تعبير المؤرخ وجيه كوثراني، وقد حافظت كسروان على تسمية مستقلة، من دون أن تدخل في الحيز الجغرافي المقصود بمصطلح جبل لبنان، باستثناء حالات قليلة.

الأحداث الأخيرة في طرابلس نموذج فعلي على استمرارية مركزية جبل لبنان، فإن كانت المدينة غير قادرة على التأثير في المشهد العام فلذلك أسباب قطعًا.

ينسحب الأمر نفسه على "جبل الدروز"، أي المنطقة الجبلية الجنوبية التي تبدأ من آخر المتن جنوبًا، وصولًا إلى أطراف جنوب لبنان الحالي في جزين، كانت تلك هي التسمية الفعلية لبلاد الشوف، ولم يكن مقصودًا بها "جبل لبنان" إلا لاحقًا، هذه التسمية، بدأت في القرن التاسع عشر، لتجمع المناطق الجبلية الشمالية والجنوبية والمتوسطة، ويصير جبل لبنان هذا مركزيًا في التاريخ، وفي النظرية السياسية التي حكمت لبنان ـ غالبًا ـ حتى اتفاق الطائف.

في التاريخ الرسمي، هذا هو لبنان، فخر الدين وبشير والعاميات، عندما نتحدث عن تاريخ للبنان، نتحدث عن اجتماع الجبال هذه كمركز، وتحولاتها بعد الإضافة الكولونيالية، لكن تلك المفاهيم، التي كانت حية في ذلك الزمن، لم تكن بذات الوظيفة التاريخية للمفاهيم التي سبقت ظهور الإمبريالية بشكلها المعاصر، أو في فترة "اللحظة السعيدة لماضي البورجوازية"، كما يقول جان بول سارتر.

اقرأ/ي أيضًا: طرابلس تنتفض.. اللبنانيون إلى الساحات مرة أخرى

 ورغم أن المقولة لا تنسحب بالضرورة على تاريخنا، إلا أنها قد تكون مفيدة لتحديد الزمن الذي نتحدث عنه، في الحالة اللبنانية، لم يبق الزمن زمنًا، بل تجاوز نفسه إلى الحاضر، حتى اليوم، ما زالت مركزية جبل لبنان قائمة في التاريخ المدرسي، الذي هو نسخة مهجّنة من تاريخين، الأول رسمي، والثاني فولكلوري.

ما لا ينتبه إليه كثيرون، من المعترضين على هذه المركزية، وعلى خروج الأطراف التي ألحقت لاحقًا بجبل لبنان الكبير، إن كانت أطرافًا مثل الجنوب (بلاد بشارة) أو مدنًا كبيرة مثل طرابلس الشمالية، أن الخروج يبقى مشروطًا دئمًا بالاحتكام إلى الجبل كمركز، وأن القبول بإضافة "تواريخ" المناطق إلى تاريخ لبنان، لا يلغي القاعدة الأساسية، جبل لبنان هو لبنان.

 تثبت الانتفاضة اللبنانية أن التحولات في رأس المال أسرع بكثير من التحولات في التاريخ، وأن اللحظة السعيدة لماضي البورجوازية لم تنته بعد.

 الحرب الأهلية غيّرت النظرة إلى البلاد كما تفعل الحروب الأهلية عادةً، اعترفت بحضور الأطراف ونقمتها، لكن المركز لم يهتز في الوعي، الانتفاضة الأخيرة ـ وهي في شكلها لا مركزية ـ شهدت زخمًا طبقيًا واضحًا في بدايتها، لم تحدد علاقة نهائية حاسمة بهذه المركزية، مع أن هذه المركزية حددت رأيها بالانتفاضة بالفعل، الأحداث الأخيرة في طرابلس نموذج فعلي على استمرارية مركزية جبل لبنان، حتى أثناء الدعوة إلى انتفاضة لا مركزية، فإن كانت المدينة الرهيبة تاريخيًا غير قادرة على التأثير في المشهد العام، بقدر ما تؤثر فيه حادثة بسيطة في جبل لبنان، رغم كل ما حلّ فيها من اعتراضات، فلذلك أسباب قطعًا.

من الناحية النظرية، لا يمكن أن تكون مدينة مثل طرابلس على الهامش، ربما وبسبب تتالي الأحداث، صار الأمر تقليدًا، غالبًا بالمعنى الذي يقصده أدورنو عن التقليد: "تذكر لا واعي" (unconscious remembrance)، بالتأكيد ثمة مقصد ديالكتيكي خلف التعبير، كان الهدف منه نقد الهياكل المعقدة للمعنى، الموروثة سلبيًا من الماضي، باستعارة التعريف، وتذكّر طرابلس بدون تدقيق في الوعي، سنجد أنها كانت تقليديًا تحاول الانضمام بقوة إلى التأثير، ولكن المركز يقاوم بضراوة، في لحظاته التاريخية المتعددة.

اقرأ/ي أيضًا: فقدان الثقة بالحكومة وتدهور الاقتصاد يدفعان اللبنانيين إلى الشوارع مجددًا

في الحرب الأهلية، حدثت معارك ضارية شنها جيش حافظ الأسد على المقاومة الفلسطينية في لبنان، وحدثت مجازر بعموم السكان في الشمال، لكن المنطقة بقيت أقل حضورًا كاستعادات في الحاضر من حرب الجبل، حتى في فستيفالات المجتمع المدني لنبذ العنف وتبادل العناق وتبويس اللحى، لاحقًا وفي 14 آذار، كان الزخم الشمالي أساسيًا في رفد التظاهرات، لكن طرابلس بقيت اسمًا يأتي من بعيد، أما في الانتفاضة، فهناك حديث عن "عامية الشمال"، بالتعامل مع العاميات كمخرج ضروري للتحرك ضدّ الهيمنة، كان هذا اختراقًا كبيرًا، لكن حدود التأثير لا يجب أن توغل في التفاؤل.

المفارقة أن مفهوم العاميات نفسه (منتصف القرن التاسع عشر)، كان مفهومًا نموذجيًا للامركزية، ولكن ضمن مركزية جبل لبنان نفسه، بطبيعة الحال لا نتحدث عن أنثروبولوجيا على الإطلاق، إنما عن ظروف جيوسياسية محددة واضحة، رغم أن تلك الفترة هي فترة ذهبية لولادة الأنتروبولوجية ونموها، ذلك أن هذا الميدان، في تلك الفترة، عرف ظهور النظرية العامة للمجتمعات بمفردات صارت عالمية، العاميات نفسها ليست حالة لبنانية خالصة، وبعد مراجعتها قد يتضح أنها تأثرت بمناخ التمرد في العالم الذي ساد آنذاك، هذه الاحتمالات جميعها، لا تلغي أن الزاوية التي ننظر منها إلى التاريخ هي زاوية نظرية، وأننا بعيدين عن مفاهيم ذلك الزمن، ما نتحدث عنه، هو الزمن الحاضر.

ليس معقولًا أن يتجاوز التاريخ نفسه، جبل لبنان ظلّ لوقت طويل منكفئًا على ذاته، مصرًا على خصوصيته التي أورثها للبنان الكبير، وهذا على عكس الشمال الذي يتغزل بعلاقة ثقافية واجتماعية مع سوريا (البقاع أيضًا)، والجنوب الذي يطل على شرفة فلسطين، رغم التحولات المذهبية التي صرفت بصره إلى ماضٍ متخيل، بدلًا من الحقيقتين التاريخية والجغرافية.

 ولكن النقاش طويل ومفتوح عن المركز، وشرطه الأساسي فهم الانتفاضة، وفهم موقع رأس المال، الذي تتحرك الانتفاضة ضدّه، من بين عدة عوامل أخرى، ولا سيما الطائفة كعامل سياسي وأنثروبولوجي تنتظم فيه الجماعة وتنظم مصالحها عبره، تثبت الانتفاضة اللبنانية بصعودها ونزولها أن التحولات في رأس المال أسرع بكثير من التحولات في التاريخ، أو تحديدًا في فهم التاريخ، وأن اللحظة السعيدة لماضي البورجوازية، لم تنته بعد.

اقرأ/ي أيضًا:

ثورة بلا سياسة!

اليوروبوندز على الأبواب.. لبنان يدفع، لا يدفع؟