29-سبتمبر-2022

تضع التسريبات الأخيرة أوروبا أمام مرحلة جديدة في أزمة الطاقة (Getty)

لا تقع مصائب الطاقة فرادى على رؤوس الأوروبيين، ففي ظلّ أزمة الطاقة المستفحلة بسبب توقف الإمدادات الروسية، سُجّل تسرب كبير للغاز في خطّيْ الأنابيب الروسيين "نورد ستريم 1 و2" تحت بحر البلطيق، وتكاد تجمع المواقف القادمة من الدول الأوروبية على أن التسريب الحاصل عمل تخريبي مدبّر، في إشارة إلى تورط روسي في الحادث.

ليس نورد ستريم مجرّد خط عادي لنقل الغاز، ففضلًا عن الحسابات الاقتصادية والاستراتيجية المرتبطة به، فهو أيضًا تجسيد لإمكانية التعاون والتقارب بين روسيا والغرب

وكاستباق من روسيا لدفع الاتهامات عنها، دعا الكريملين إلى التحقيق في واقعة التسريب التي قد تؤذن حسب مراقبين بدخول الاقتصاد العالمي في حرب الطاقة الثالثة، على اعتبار أن حرب الطاقة الأولى كانت عام 1973 إثر الصراع العربي الإسرائيلي الذي لجأت فيه دول خليجية بزعامة السعودية إلى استعمال النفط كسلاح ضغط. أما حرب الطاقة الثانية فكانت في السبعينات أيضًا، لكن في نهايتها وبالتحديد في ذروة الثورة الإسلامية في إيران 1979 حيث سجّلت أسواق الطاقة نضوبًا في الإمدادات، يشابه الشح الحالي في إمدادات الطاقة لا سيما الغاز منها، وأوروبا على أعتاب شتاء يتوقع أن يكون قارسًا في ظل انعدام البدائل الحقيقية للغاز الروسي الذي تعتمد عليه أوروبا بنسبة 41%.

في هذ السياق، وصفت صحيفة بوليتيكو الأمريكية في تقرير خاص التفجيرات التي لحقت بخطوط الأنابيب بأنها سياسة حافة الهاوية، وأنها مؤشر لبروز جبهة جديدة للحرب الدائرة في أوكرانيا حاليًا، إذا صحّت فرضية أن الروس يقفون خلف التفجيرات التي استهدفت أنابيبهم. وحول هذه النقطة بالذات جادلت بوليتيكو بأن الروس قد يلجؤون إلى أي وسيلة لترجيح الكفة لصالحهم، مشيرة إلى أن تصرفات روسيا العدوانية السرية والمصممة خصّيصًا للترهيب عديدة، على غرار تسميم سالزبوري في المملكة المتحدة عام 2018، وانفجار مستودع الأسلحة التشيكية 2014، وسلسلة التفجيرات في مستودعات الأسلحة في بلغاريا التي كان آخرها تموز/يوليو الماضي.

نورد ستريم.. خط الحرب

ليس نورد ستريم مجرّد خط عادي لنقل الغاز الطبيعي من روسيا إلى أوروبا، ففضلًا عن الحسابات الاقتصادية المرتبطة به وكونه شريان طاقة مهمًا لأوروبا، فهو أيضًا تجسيد لإمكانية التعاون والتقارب بين روسيا والغرب بعد تفكيك الاتحاد السوفييتي وانهيار معادلات الحرب الباردة بشكل عام. ولذلك سرعان ما تم الزج به في أتون الحرب السياسية، حيث اُستخدم كورقة ضغط من الجانبين الغربي والروسي، على خلفية "عدوان" روسيا على أوكرانيا.

 فمن ناحية، أشهر الغرب سيف العقوبات الاقتصادية التي هزّت بقوة روسيا وأثّرت عليها، لكن في المقابل أشهرت موسكو أيضًا ورقة الطاقة لمساومة أوروبا عبر تهديدها بقطع شريان الطاقة المتدفق عبر خط أنابيب نورد ستريم الذي يتكون من خطين "نورد ستريم 1 و2"، اللذين دخلا الخدمة تواليًا 2011 و2012، بطول يصل إلى 1222 كيلومترًا، مشكلًا أطول خط أنابيب تحت البحر في العالم.

وتشير إحصاءات 2021 إلى أن "حصّة روسيا من الغاز الطبيعي بلغت قرابة 41 بالمئة من إجمالي استهلاك أوروبا للغاز سنويًا في  بأكثر من 175 مليار متر مكعب سنويًا". ولا يقتصر الإمداد الطاقوي الروسي لأوروبا على الغاز فحسب، فروسيا كانت لوقت قريب تزود أوروبا يوميًا بمليوني برميل من النفط الخام، وقرابة 1.8 مليون برميل يوميًا من المشتقات.

هذه الإمدادات تراجعت بشكل دراماتيكي وقياسي منذ الحرب على أوكرانيا، فالغاز الطبيعي تراجع بحوالي 70%، وهي نسبة مرشحة للزيادة بعد التسربات الأخيرة التي أعلن عنها في خطيْ نورد ستريم، حيث قد تصل النسبة إلى أكثر من 90%.

طبيعة التسرب في خط نورد ستريم

بحسب ما ذكرته الإدارة البحرية السويدية التي تلقت تنبيهًا بوقوع تسرّبين في خط أنابيب "نورد ستريم "1، وتسريب واحد في خط "نورد ستريم 2"، فإن التسربات تقع إلى الشمال الشرقي من جزيرة بورنهولم الدانماركية، وربما يكونان ناتجين عن حدوث انفجارين وقعا تحت سطح البحر قبل تسرب الغاز الذي تدفق بكميات كبيرة، مشكلًا بقعًا تتراوح بين 200 متر إلى 1000 متر. وفور تلقي التنبيهات قامت الدنمارك بتقييد حركة الشحن وفرض حظر ملاحة حول خط الأنابيب.  لتؤكد بعدها سلطة الطاقة الدانماركية أن تسرب الغاز ناجم عن فتحة كبيرة في خط نورد ستريم، ومن المتوقع أن يستمر تسرب الغاز لعدة أيام وربما يستمر أسبوعًا.

وزارة الداخلية الألمانية أعلنت أنها تتعامل بجدية مع الأضرار التي لحقت بخط أنابيب نورد ستريم، وأنها على اتصال وثيق مع كل من الدانمارك والسويد. وفي بيانها الصادر حذّرت الداخلية الألمانية من خطر أمني بالغ في الاقتراب من المنطقة، في ظل توقعات بأن تسرب الغاز سيؤثر على هدوء مياه البحر، خاصة أن سطح البحر مليء بغاز الميثان، وهو ما يعني احتمالات متزايدة بحدوث انفجارات في منطقة تسرب الغاز من خط أنابيب نورد ستريم.

تفجير متعمّد بفعل فاعل

أكّدت التصريحات القادمة من عدة عواصم غربية، أن تسرب الغاز من خط نورد ستريم ناتج عن تفجيرات متعمدة ومدبّرة، بهدف تأزيم الوضع أكثر. وفي هذا الصدد وصف ميخايلو بودولاك، مستشار الرئيس الأوكراني، الأعمال التي لحقت بخطوط إمداد الغاز بأنها "هجوم إرهابي خططت له روسيا وعمل عدواني تجاه الاتحاد الأوروبي".

كما اعتبرت رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين أن التسريبات هي نتيجة "فعل تخريبي"، داعية إلى التحقيق في هذه الأحداث وجلاء كل ملابساتها وأسبابها". وقبل ذلك أكدت رئيسة وزراء الدانمارك أن تسرّب الغاز الذي حصل بالقرب من جزيرة دانماركية ببحر البلطيق ناجم عن "عمل متعمّد" و"ليس حادثًا عرضيًا".

بدوره قال رئيس الوزراء البولندي إن تسرب الغاز ناتج عن عمل تخريبي، معتبرًا أنه قد يكون مؤشرًا على مرحلة جديدة من تصعيد الوضع في أوكرانيا. وكان وزير الخارجية البولندي أكثر وضوحًا عندما أشار بأصابع الاتهام إلى موسكو، قائلًا:" قد يكون التسريب عملًا استفزازيًا من جانب موسكو"، حيث إن روسيا تنتهج على الدوام سياسة عدوانية، حسب بيان لوزارة الخارجية البولندية لم يستبعد قيام موسكو بأي استفزازات من هذا القبيل.

أمريكيًا، اعتبر وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن أن تسرب الغاز من خطي نورد ستريم لن يخدم أي جهة إذا ثبت أنه ناجم عن هجوم أو تخريب.  يشار إلى أن صحيفة ديرشبيغل الألمانية ذكرت أن المخابرات الأمريكية حذرت الحكومة الألمانية من هجمات مخطط لها على أنابيب نورد ستريم في بحر البلطيق.

روسيًا، لم تعبر موسكو عن وجهة نظر متشنجة ضد أصابع الاتهام الموجهة إليها، حيث أعرب الكرملين عن قلقه البالغ بشأن تسرب الغاز في خطي أنابيب نورد ستريم، مكتفيًا بالمطالبة بتحقيق.

تداعيات وخيمة

يُنذر دخول أنابيب الطاقة والبنية التحتية للاتصالات تحت البحر في بنك أهداف حرب روسيا على أوكرانيا بتداعيات وخيمة حسب آراء عدد من المتابعين، لأن ذلك سيضطر القوات البحرية الغربية إلى اتخاذ إجراءات سريعة، لا تبشّر بمستقبل جيد للطاقة وإمداداتها. وفي هذا السياق اعتبر تقرير لموقع بوليتيكو الأمريكي أن أزمة الطاقة في أوروبا دخلت بالفعل مرحلة جديدة وشائكة.

يُنذر دخول أنابيب الطاقة والبنية التحتية للاتصالات تحت البحر في بنك أهداف حرب روسيا على أوكرانيا بتداعيات وخيمة حسب آراء عدد من المتابعين

لأنه إذا صحّت المعلومات حول وقوف روسيا خلف تخريب خطوط أنابيب الغاز، فإن الجيوش الأوروبية ستكون مجبرة، حسب موقع بوليتيكو، على الاستعداد لجبهة جديدة غير متوقعة إلى حد كبير في حرب أوكرانيا يمكن أن تضع هذه الجيوش في مواجهة مباشرة مع البحرية الروسية.