09-يونيو-2020

رئيس الوزراء المغربي السابق عبد الرحمن اليوسفي (دانييل سيمون وغاما رافو/Getty)

وأنت تمضي إلى مثواك الأخير أيها العزيز، كنت أتخيلك فقط ستمضي إلى بستان قريب لترتاح قليلًا. فالأشخاص أمثالك – رغم أنهم قليلون – لا يموتون إلا فيزيائيًا. إنهم فقط يتزحزحون قليلًا عن الوجود، ليذهبوا في نزهة سريعة إلى حدائق خالدة في أذهان الناس ومخيلاتهم، لأنك تقيم إقامة دائمة في قلوب المغاربة قاطبة. لقد اتفق المغاربة على أنك كنت مثالًا في التفاني والعمل الجاد والدؤوب. لقد اشتغلت طويلًا بنكران للذات منقطع النظير، بحيث لم تفكر أبدًا في مصلحتك الشخصية، أو في الاغتناء، أو في تأسيس ثروة مزيفة. فأنت الرجل الذي أعطى كثيرًا ولم يأخذ إلا القليل. أنت الرجل الذي أعطى بدون حساب، وبدون أن ينتظر مقابلًا عن عطاياه الكثيرة. فالسعادة كانت تتجسد دومًا، بنظرك، في العطاء وليس في الأخذ.

بدل أن ينتصر عبد الرحمن اليوسفي لأنانية الإنسان، التي اعتبرها طوماس هوبس جزءا لا يتجزأ من النفس الإنسانية، من خلال جملته الشهيرة:" الإنسان ذئب لأخيه الإنسان"، فضل أن يكون غيريًا، ويفكر في  مصلحة الآخرين، ومصلحة الجماعة 

لقد اشتغلت في صمت مثلما تشتغل الأمهات العفيفات وهن يحرصن على أسرهن. فأنت لست بالشخص المرائي الذي يعشق الظهور في المرايا والمحافل وشاشات التلفزة، مثلما لست بالرجل المنان الذي يظل  يذكر ببطولاته وبعنترياته. فأنت في غنى عن هذا، لأن التاريخ كفيل بتسجيل كل شيء. إنه الفيصل في تحديد معادن الرجال ونواياهم. كما أنك لم تكن بالشخص حسير النظر الذي لا يرى سوى ما يوجد بقربه، بل كنت واسع الرؤية وفاره التصميم. تمتد أمامك كل سراديب الحياة، وكل طلاسم الوقت ، ولكنك كنت تستطيع التغلب على كل الصعاب وكل المطبات.

اقرأ/ي أيضًا: البحث عن مفضي الجدعان الجديد

كانت لحظة نعيك بمثابة انكسار كبير ترك أصواتًا ضخمة جعلت الفرائص تصطك والأرجل تتخاذل، والقوى تخور. لقد انطلق هذا النعي مثل سيل جارف لا يلوي على شيء. فامتلأت جنبات وسهول الوسائط الاجتماعية بتبادل التعازي، وبالورود اليانعة التي ترمز إلى صنيعك الجميل. لقد تذكر الجميع تضحياتك الكثيرة، ومجهوداتك الجبارة، وكيف فضلت الصمت أخيرًا، بدل الخوض في نقاشات عقيمة لا تغني ولا تسمن من جوع. فضلت أن تخلد للتأمل، وربما للاعتناء بزوجتك هيلين، التي بقيت وفيًا لها، وبقيت وفية لك. لم تخذلها، ولم تخذلك .لم تهزمها، ولم تهزمك.

كنتما تعيشان ذلك التلاحم الذي عاشه الأبطال القدماء، والذي خلدته الأساطير اليونانية، مثلما هو الأمر بالنسبة لأوديسيوس البطل اليوناني وزوجته بينيلوب. فرغم الغدر الواضح الذي أبداه الخطاب الكثيرون، والذين توافدوا على منزل أوديسيوس ليخطبوا ود بينيلوب، بقيت هاته الأخيرة وفية لزوجها، وهي تداهن هؤلاء الأجلاف الذين كانت طلباتهم أكبر من أن تستوعبها سريرة أو تحتملها نفس إنسانية.  فبينيلوب صبرت على كل شيء، مثلما صبر أوديسيوس وهو يواجه مخاطر وصعاب ارتحالاته. أنت أيضًا والسيدة هيلين صبرتما على شدائد كثيرة. لقد اصطبرتما  أيضًا على بعضكما البعض، وأنتما تجتازان مفازات اليومي و ردهات المحطات الكبرى في حياتكما المديدة. فهي عرفت منذ البداية أنها قد ارتبطت برجل كبير وصلب، لا يمكن له إلا أن يكون بطلًا.

أنت إذن رجل بألف رجل؛ رجل استطاع أن يحتمل كل شيء ويمضي؛ رجل استطاع أن يبقي المركب على سطح البحر، مانعًا إياه من الغرق. لقد كان البحر يهدأ أحيانا، ويهيج وتعلو أمواجه في أحايين كثيرة. كنت طيلة الوقت تجدف بمجدافيك، ولا تتركهما ينفلتان من يديك، أو تسلبك إياهما الرياح. ورغم أن اصطخاب البحر كان قويًا، فإن مركبك وصل سالمًا إلى البر. كانت هناك حشود كبيرة من الناس تنتظرك لتهنئتك، والتلويح إليك بمناديل بيضاء، لكنك فضلت مبادلتهم تحاياهم بتحية صغيرة، لطيفة، ومحببة، ومضيت إلى منزلك للقاء زوجتك هيلين، لتمنحك السكينة التي تحب. فضلت أن تجري بعيدًا عن حلبة السباق التي تركتها لعدائين آخرين. تركت لهم البحر والمركب . لكنك كنت تتابع عن كثب كل صغيرة وكبيرة بحنان الأب الكبير، وبالاهتمام الذي لا يضاهى، لأنك جزء لا يتجزأ من هذا البستان الكبير الذي تركته مزدهرًا.

اقرأ/ي أيضًا: القلق الإبداعي ما بين ثوب الشاعرة الشفّاف ونصّها الروائي

أما  السيدة هيلين فستذكرك كنوتي محنك، وبطل مغوار استطاع أن ينهي رحلته بكثير من الإنتصارات الراسخة. استطعت أن تقدم لها النموذج الحسن لثقافة عربية، لطالما نظر إليها على أنها ثقافة ممجوجة وغريبة وسط الثقافات الغربية خاصة. كنت المثال الجيد الذي أصبح مصباحًا في هذا الليل العربي البهيم. فبدل أن تنتصر لأنانية الإنسان، التي اعتبرها طوماس هوبس جزءا لا يتجزأ من النفس الإنسانية، من خلال جملته الشهيرة:" الإنسان ذئب لأخيه الإنسان"، فضلت أن تكون غيريًا، وتفكر في  مصلحة الآخرين، ومصلحة الجماعة. فمصلحة الجماعة هي مصلحتك الشخصية، مثلما قال العميق فريديريك هيجل. فالأفراد لا يجتمعون لتحقيق مصالحهم الفردية بل  لتحقيق مصالح الأمة. وهذا ما التقطه الفيلسوف كارل ماركس حينما انتقد الرأسمالية التي تقوم على الأنانية. وهو ما يعتبر إحدى اللبنات الأساسية للتفكير الاشتراكي مثلما آمنت به أنت أيضا. فبدل التأسيس للأنانية، والجشع، والاغتناء  وإجهاض أحلام الآخرين، فأنت كنت مثالًا في التواضع وإكرام الآخرين. لقد اخترت الانتصار لمصلحة أمتك بدل الانتصار لمصالح عشيرتك وقبيلتك؛ اخترت النظافة والنقاء، بدل الارتماء في مستنقعات بائسة مليئة بالطحالب والسلاحف المقيتة، اخترت الارتفاع إلى أعلى مثلما دعا إلى ذلك الفيلسوف أرسطو، بدل النزول إلى أسفل مثلما يفعل منعدمو الضمير وباعة الأوهام، ورصاصو الخديعة.

حينما تحملت المسؤولية، كان المغرب يمر بمرحلة صعبة جدًا، لكنك تغلبت على كل شيء بحلمك الكبير وببصيرتك الشاسعة، وبأفكارك النيرة. وهذا ما ستتذكرك به كل القوى الحرة، والمحبة للإنسانية والمتيمة بالحرية والمدافعة عن حقوق الإنسان. وهذا أيضًا ما ستتذكرك به زوجتك هيلين التي ودعتك بالدموع والحسرات. فلن ينسى المغاربة قاطبة صورتها وهي تكاد تسقط والدموع تملأ عينيها. لقد كانت لحظة فارقة بالنسبة إليها. لقد ودعت شخصًا عزيزًا على قلبها، مثلما هو عزيز على كل المغاربة. لقد ودعت شخصًا تحترمه جم الاحترام، مثلما يحترمه كل المغاربة. لكنها تعرف أنك باق بيننا، لأنك رمز من الرموز المشرقة التي لا تختفي أبدًا. فهي كنجوم السماء. فرغم أننا لا نراها نهارًا، فذلك لا يعني أبدًا أنها غير موجودة، لأننا نعرف أنها ستظهر من جديد خلال الليل. لذلك فنحن نظل ننتظر لحظات السكينة التي تحلو في الليل لنتذكرك جيدًا، ولنقيم لك نصبًا لا يبلى داخل مخيلاتنا وقلوبنا.

 

اقرأ/ي أيضًا: 

مقاومة العزل القسري.. ماذا فعل بطل "الإضراب الأيرلندي" بوبي ساندز؟

بينَ مدّ الكاتب وجزر ناقده