1. قول

مرايا الانتماء الجريح.. زمن الهوية المتشظية

10 مايو 2025
انتفاضة لبنان 2019
حاول اللبنانيون انتزاع هويتهم من قبضة الزعماء المتكالبين على السلطة (رويترز)
زاهر عبد الباقيزاهر عبد الباقي

كيف ننتمي إلى مكانٍ يرفض أن يشبهنا؟" سؤالٌ يطاردنا، أنساه فيعود من جديد ليفرض حضوره القلق في ظلّ أنظمةٍ لا تتوانى عن طحن أحلام شعوبها وتشويهِ معنى الانتماء. هذا التساؤل العميق يفتح الباب واسعًا أمام بحثٍ مضنٍ عن معنى الهوية في جغرافياتٍ عربيّة تُعيد إنتاج أزماتٍ متشابهة.

فمن دمشق إلى بغداد، ومن بيروت إلى غزة، يُختَزل الانتماء إلى مجرد ورقةٍ طائفية، أو شعارٍ منقوصٍ يُرفع في المناسبات، أو حنينٍ مؤلمٍ إلى ماضٍ لم يعد موجودًا إلا في الذاكرة المثقلة بالخيبات.

في قراءة معمّقة لواقع العراق المُلتبس، يبرز تمييز جوهري بين الإرث الشعريّ والإرث السرديّ، بوصفه مفتاحًا لفهم طبيعة الانتماء في وادي الرافدين، بل وربما في سياقاتٍ عربيةٍ أخرى تعيش على إيقاع الأزمات المركبة ذاتها. فالشعر، بفيضه الوجدانيّ وقدرته على التقاط المكابدات الإنسانية وتجسيد التحولات الكبرى، ظلّ الخيط الناظم الذي يربط الأجيال، ويمنح هوية ثقافية وروحية صمدت، وإن بصعوبة، في وجه العسف السياسيّ وتقلبات الأنظمة الفاسدة.

فمن دمشق إلى بغداد، ومن بيروت إلى غزة، يُختَزل الانتماء إلى مجرد ورقةٍ طائفية، أو شعارٍ منقوصٍ يُرفع في المناسبات، أو حنينٍ مؤلمٍ إلى ماضٍ لم يعد موجودًا 

هذا الانتماء الوجداني العابر للجغرافيا الضيقة، والمُتجذّر في الذاكرة الثقافية، يمنح بعض العزاء وسط الركام، لكنه لا يكفي بمفرده لردم الهوّة التي خلقتها عقود من الاستبداد والتقسيم الطائفي. فالمنظومة السياسية القائمة على المحاصصة الطائفية لم تنتج سوى مزيد من الشروخ المجتمعية وتكريس الفوارق الطبقية.

وفي ظل إعلام رسمي يخلو من المهنية، ويسهم في تغييب الوعي النقدي ويعيد إنتاج الخطاب السلطوي، تغيب المنابر الجادة للمساءلة والتحليل. وبدلًا من تعزيز الحضور الثقافي والفكري، تصدّرت مشهدَ الفضاء العام موجاتٌ من المؤثّرين الرقميين الذين يفاخرون بالثروة والنفوذ، بما يعكس خواءً ثقافيًا مرعبًا ويعمّق الفجوة القائمة أصلًا بين الفئات الاجتماعية.

إن هذا الواقع المأزوم يُثقِل أي حديث عن الأمل أو الطموح؛ فكيف يمكن للشباب، وهم وقود التغيير، أن يحلموا بمستقبل في وطنٍ تتآكل فيه المدن، وتتفاقم فيه البطالة، ويتفشى الفساد كالوباء؟

في لبنان، لا يختلف الجدل حول الهوية والانتماء عن سوريا أو العراق في جوهره، وإن اختلفت التفاصيل. فالهوية هنا تُوزَّع كحصصٍ في نظامٍ محسوب بدقة، حيث تحدد بطاقة الميلاد الدينية حقوق الفرد ومصيره.

هذا النظام الطائفيّ، الذي بُني على وعدٍ زائف بالاستقرار، حوَّل البلاد إلى ساحةٍ مفتوحة للصراعات، ومنصةٍ لتصفية الحسابات تحت شعاراتٍ مذهبية بالية لا تمتّ للدين بصلة في غالب الأحيان. لكن المفارقة تكمن في أن هذا السجن الطائفي لم يُخلق من تراثٍ عريق، بل هو نتاجُ اتفاقياتٍ سياسية حديثة ورغبةٍ في السيطرة على مقدرات البلاد وثرواتها. وعندما انفجر الغضب الشعبيّ عام 2019، حاول اللبنانيون انتزاع هويتهم من قبضة الزعماء المتكالبين على السلطة، كمن يُريد استعادة أرضٍ مُغتصبة.

كانت الثورة محاولةً لتحويل الانتماء من "ميراثٍ ميت" يُفرض من الأعلى إلى مشروعٍ حيويّ ينبض بالحياة ويُبنى من القاعدة، لكنها اصطدمت بجدارٍ سميكٍ من الذاكرة الجماعية المليئة بالخوف والانقسام التي تغذّيها قوى الأمر الواقع وتستفيد منها. أما بيروت فهي ليست مجرد مدينة بقدر كونها مرآة لهوية اللبنانيين المكسورة، وتجسيدٌ حي لتناقضات الانتماء المشكّل بالإسمنت والدماء. أحياؤها التي تلمع ليلًا كجوهرةٍ بحرية تخفي تحتها أنقاض بيوتٍ دُفن أصحابها تحت خطابِ "إعادة الإعمار" المزيّف الذي لم يُعد إلا مصالح فئة قليلة. مقاهيها الفاخرة التي تحتفي بالفن العالمي تُناقض بيوتًا بلا ماءٍ ولا كهرباء في مناطق أخرى من المدينة والبلاد. هنا، يُجبرك الوطن يوميًا على سؤالٍ مرير وقاسٍ: هل تنتمي إلى الصورة البراقة التي تُباع للعالم في المهرجانات والإعلانات السياحية، أم إلى الواقع المُنهار الذي يعيشه المقيمون في البلد والمتروكون لمصيرهم البائس؟

في ظل هذا الواقع المأزوم والمشهد العربيّ القاتم، يهاجر نصف الشباب اللبناني اليوم، وليسوا وحدهم في هذا المسعى المرير الذي يُفرغه من طاقاته، ليس بحثًا عن فرصٍ أفضل فحسب، بل ربما هروبًا من سؤال الهوية الثقيل الذي أشعلته الأزمات المتلاحقة وعجز الأنظمة عن توفير حياة كريمة. لكن المغترب سرعان ما يكتشف أن الوطن لا يُترَك خلف الحدود الجغرافية؛ فهو يحمله في صوته، ولهجته، وحتى في غضبه الصادق من ذاكرةٍ ترفض أن تموت أو تُنسى في زحمة الحياة الجديدة.

يحاول بعضنا تحويل المنفى إلى شكلٍ من المواجهة الهادئة أو الصاخبة: محاولةٌ لبناء هويةٍ جديدةٍ ضمن آفاق أرحب، ومن دون أن تنقطع جذورنا عن الأرض الأصل التي نشأنا فيها ونحمل حكايتها معنا. ورغم ذلك، وقع الكثير منا في فخ النفي الذاتي، فالهوية، كالنبتة، تموت إذا انفصلت عن منبعها وتغذّت على سرابٍ لا يروي ظمأ الروح.

يدرك كثير من المثقفين والكتاب والناشطين في المنطقة واقعًا مؤلمًا: فقد أصبح المثقف العربي في موقع لا يُحسد عليه، يُعامل كما لو كان "جريحًا يُلام لأن دمه لطّخ السجادة البيضاء". ففي الوقت الذي يُفترض أن يكون صاحب مشروعٍ تنويريٍّ وبنّاءٍ لتجديد الهوية وبناء الوعي النقديّ القادر على فرز الغثّ من السمين، تجده إما منغمسًا في صراعاتٍ هامشية لا تُقدّم ولا تُؤخّر في صلب القضية، أو منفصلًا عن واقع الجمهور وهمومه اليومية ومعاناته، أو هاربًا إلى خطابٍ مثاليٍّ طوباويّ لا يلامس الأرض ولا يُقدّم حلولًا واقعيةً قابلةً للتطبيق.

لكن الأزمات الكبرى، بحدّتها وعمقها، تفرض عليه خيارًا صعبًا وحاسماً لا مجال فيه للحياد: إما أن يكون جزءًا فاعلًا ومشاركًا بجدّية في لعبة التغيير المعقدة والطويلة، مع كل ما تحمله من أخطاءٍ وانتكاساتٍ محتملة على الطريق، أو أن يتحول إلى مجرد شاهدٍ سلبيٍّ يرقب الانهيار من بعيد دون أن يحرّك ساكنًا مؤثرًا. الانتماء هنا ليس اختيارًا أخلاقيًا سهلًا فحسب، بل هو مسؤوليةٌ عمليةٌ جسيمةٌ ملقاةٌ على عاتق الجميع: المشاركة الفاعلة والإيجابية في تشكيل سرديةٍ بديلة عن تلك التي تكرسها الأنظمة المستبدة والفصائل المتناحرة التي تسعى لتمزيق النسيج المجتمعيّ.

الإجابة الحقيقية على سؤال "كيف ننتمي؟" لا تكمن في اختيار أحد وجهي القبح والجمال، ولا في الانحياز لأحد طرفي المعادلة الزائفة، بل في رفض ثنائية الواقع المفروض والصورة الزائفة التي يُراد لنا أن نصدّقها. الانتماء الحقيقي يبدأ عندما ترى الوطن بعيوبه الكثيرة التي تحتاج إلى معالجة، وأحلامه المشروعة التي تستحق أن نسعى لتحقيقها معًا، وتقرر بوعيٍ أن تحميه من أولئك الذين يريدونه مجرد ساحة حربٍ دائمة تُخاض على حساب الأكثرية الساحقة من أبنائه وبناته البسطاء الذين يدفعون الثمن.

ليست المطالبة بالانتماء دعوةً للاستسلام لواقعٍ مُذل ومؤلم، بل هي اقتراحٌ عمليٌّ وجادّ لتحويله إلى ورشة عملٍ دؤوبة ومستمرة من أجل التغيير والبناء. فكما أن النظام الطائفيّ في لبنان، والمنظومة الفاسدة في العراق، وغيرهما من أشكال الاستبداد والتسلّط في المنطقة هي اختراعٌ بشريّ بامتياز يمكن تفكيكه، فإن تفكيكها ممكنٌ بإرادةٍ جماعيةٍ واعية ومثابرة وعمل دؤوب.

الإجابة الحقيقية على سؤال "كيف ننتمي؟" لا تكمن في اختيار أحد وجهي القبح والجمال، ولا في الانحياز لأحد طرفي المعادلة الزائفة، بل في رفض ثنائية الواقع المفروض والصورة الزائفة التي يُراد لنا أن نصدّقها

 

الشباب الذي خرج في 2019 في لبنان والعراق وغيرهما، رغم ما واجهه من تعثرات في تحقيق أهدافه المباشرة، أثبت أن الهوية ليست سجنًا أبديًا، بل مادة حيّة قابلة للتشكيل الواعي والحر، وأنّ الانتماء الحقيقي لا يعترف بالحدود المصطنعة التي رسمتها قوى الاستعمار والتبعية، ولا بالذاكرة المسمومة التي تحاول قوى الظلام والجهل فرضها لتفريقنا.

هو ذاك الانتماء الذي يرى في أزمات بيروت وبغداد ودمشق وغزة أوجهاً متعددةً لجوهرٍ واحد: معركة مصيرية يخوضها الإنسان العربي من أجل كرامته وحقوقه الأساسية، ضد كل ما يحوّله إلى رقمٍ في معادلة السلطة الغاشمة أو بيْدقٍ في صراعاتها العبثية. ولعلّ الطموحَ الحقيقيّ يكمن في هذه الرؤية الوحدوية، وفي السعي الدؤوب نحو بناء أوطانٍ عربيةٍ تُشبهنا وتحتضن أحلامنا المشروعة وطموحاتنا اللامحدودة نحو مستقبلٍ أفضل.

كلمات مفتاحية
مخيم اليرموك

المخيم الذي فينا: سردية اللاجئ بين الذاكرة والمنفى

حين شُيّدت الخيام الأولى في عتمة التهجير، لم يكن أحد يظن أن القماش سيصير إسمنتًا، وأن المؤقت سيفرد ظله الثقيل على أكثر من سبعين عامًا من النفي المستمر

بين مرايا الدم وأقلام الحياد.. خيانة المثقف العربي لقضاياه

لم تعد غزة مجرد جغرافيا محاصرة، بل غدت اختبارًا أخلاقيًا للإنسانية، ومرآة تعكس نفاق المجتمع الدولي وعجزه عن وقف المجازر المرتكبة على مرأى ومسمع من العالم.

رغم الخسائر والضغوط.. لماذا تتجنب مصر استهداف اليمن عسكريًا؟

تمثل العلاقات المصرية اليمنية حالة استثنائية شديدة التمايز والخصوصية، إذ يربط البلدين قائمة مطولة من القواسم المشتركة، المتنوعة بين الثقافي والسياسي والجغرافي

كرة القدم
رياضة

متى تصبح مغادرتك لفريقك خيانة؟

تتعقّد الأمور عندما يخرج لاعب محبوب من الجماهير من فريقه بشكلٍ يراه البعض خيانة، دون أن يضعوا في الاعتبار أن بعض اللاعبين يُعاملون هذه الرياضة كعملٍ بدوامٍ كامل

الصين
رياضة

لماذا تفشل قوة عظمى كالصين في لعبة كرة القدم؟

تتداخل أسباب الفشل في كرة القدم الصينية بين تدخل السلطات والنمطية والنفوذ والفساد، بالإضافة إلى الخوف على المستقبل والنطاق التلقيني في التنشئة

المفكر هنري لورنس (شبكات التواصل الاجتماعي)
نشرة ثقافية

هنري لورنس في "التاريخ المفروض": قراءة لكتابة التاريخ تحت سطوة العنف

ينطلق كتاب هنري لورنس من مراجعة نقدية لأسس المعرفة التاريخية والخطابات المعاصرة

تدمير بلدة خزاعة
حقوق وحريات

بلدة خزاعة سويت بالأرض.. أدلة إضافية على ارتكاب إسرائيل لجريمة الإبادة في غزة

أجرت منظمة العفو الدولية تحليلًا لمجموعة من صور الأقمار الصناعية ومقاطع الفيديو الموثوقة التي كشفت بالدليل الصريح أنّ جيش الاحتلال الإسرائيلي سوّى بالأرض ما تبقى من بلدة خزاعة جنوب قطاع غزة، وذلك في غضون أسبوعين فقط من شهر أيار/مايو