تدخل عليه زوجته بينما يقوم بتنظيف ما تبقى من أسنانه، تنبهه أن أحدهم اتصل ليسأل عن سبب تغيبه اليوم عن المدرسة وتضحك. متى صار لديه زوجة! ينظر إليها من المرآة المشقوقة المعلقة أمامه، لا تبدو امرأة ذات طابع يفضله، تبدو عادية جدًا، لكنها تبدو صغيرة مقارنة بصورته المتغضنة أمامه، هل لديه أطفال؟ يسقط السؤال على رأسه كمطرقة، إنه عجوز ليكون لديه أطفال.
يجفف وجهه بمنديل ورقي متين الصنع، لم يسبق له أن رأى أو لمس مثله. يلقي بنظرة متوجسة إلى الخارج حيث من المفترض أن تتكوم ألعابه؛ دراجته الهوائية التي ناضل ليشتريها من ابن جارتهم ولم يتحصل عليها إلا بعد دفع ثمنها من دمه الذي سال في عراكات نيابة عن ابن الجارة، بالإضافة إلى نقوده وخدمات امتدت ليوم كامل بعدها، كرته نصف المنفوخة، حجارة مربعة تربيعًا منتظمًا للعبة الطنطورة التي كان يستضيفها في ساحة بيته، لم يكن هناك سوى عشب مبالغ في خضرته وترتيبه، عشب لم ير مثله قط في حياته.
على خلاف بقية الناس فإن حميد يتذكر ببالغ الدقة اللحظات الفاصلة في حياته، لأنها لحظات باهرة، صادمة، ولا يمكن أن تختلط بغيرها أو تُخْفِيَ مصيريتها فقط ليكتشف ذلك لاحقًا بعد إعادة موازنة الأمور. إنه يتذكر بدقة اليوم الذي وجد نفسه فيه في الثانية وقد نبتت له أسنان ووقف على قوائمه بينما تدفق كلام غير مفهوم من فمه. يذكر لحظتها عندما انقضّ على ثدي أمه كرضيع، وبكى قبل أن تبعده وتقول له "عيب أنت الآن كبير". كما أنه يتذكر بدقة مماثلة اليوم الذي صار عمره فيه خمسة أعوام بعضلات ثابتة وشعر كثيف ونظرة ثاقبة لما حوله. رفض يومها أن يستخدم المرحاض وبكى حين جرته أمه مرغمًا إلى الحمّام وهي تصرخ فيه "عيب أنت الآن كبير". واليوم الذي تحول فيه إلى مراهق في الرابعة عشرة من عمره بصوت أجّش وبثور تملأ وجهه وتردد غير مفهوم اتجاه الأشياء. وحين أراد أن يرخي رأسه في حضن أمه وقفت كالمصعوقة وقالت له الجملة الوحيدة التي يذكرها بصوتها "عيب أنت الآن كبير".
وعلى خلاف بقية الناس أيضًا، لا يذكر حميد أيًا من الأحداث التي مرت بين هذه الفواصل البراقة. لا يذكر صباه ولا شبابه، أيام المدرسة، ورفاق العمل، حبه الأول، الثاني، العاشر، زواجه، وشيخوخته الحالية. لا يذكر إلا اليوم الأول من كل مرحلة.
تعتريه الآن رغبة قوية بالبكاء، غضب عارم يجتاح صدره، ورغبة محمومة بالاستلقاء على صدر امرأة، أيّة امرأة، وكلما هم بطرق أبواب مزخرفة لم يطرق مثلها من قبل، ليرى جيرانًا لم يرهم من قبل، ويسأل عن امرأة تحتضنه، خشي أن يعاجلنه بـ"عيب أنت الآن كبير"، ويغلقن أبوابهن دونه.
وهكذا تكور حميد على نفسه، قبل أن يصير بعد دقائق معدودة، جذراً في حديقة بيت لم يره من قبل، جذرًا صغيرًا مولودًا للتو.
اقرأ/ي أيضًا: