27-أغسطس-2018

دونالد هول (1928-2018)

كان دونالد هول -الذي توفي في حزيران/يونيو لهذا العام في عمر التاسعة والثمانين- شاعرًا خصبًا غزير الانتاج، وكاتبَ مقالاتٍ، ومحررًا.. وكان لأعماله تأثيرٌ واسعٌ على الأدب الأميركي. كان دونالد هول أول محرر شعريّ لمجلة -ذا باريس ريفيو The Paris Review- كما توّج أيضًا بمنصب ملك شعراء الولايات المتحدة ومستشار مكتبة الكونغرس الأمريكي في شؤون الشعر. قبل وفاته، جمّع هول كتابًا واحدًا نهائيًا مكونًا من مقالات، أسماه "كرنفال الخسارات: مذكرات على مشارف التسعين"، ما يرد أدناه مقتطف منه، وقد نقلناه إلى العربية عن موقع المجلة.


عندما كنت في السادسة عشر من عمري، كنت أقرأ عشرة كتب أسبوعيًا، قرأتُ لشعراءَ وكتابَ مثل: إي. إي. كامينجز، ويليام فوكنر، هنري جيمس، هارت كرين، جون شتاينبيك. أعتقدتُ أنني سأحرز تقدمًا أدبيًا عند القراءة بنهمٍ وبشكلٍ أسرع وأسرع؛ لكن قراءة الكثير هي قراءة بلا جدوى. تعلمت أن أبطئ قليلًا. بعد مضي ثلاثين عامًا، في نيوهامبشير بصحبة جين، كنت أكسب عيشي من خلال الكتابة المستقلة طوال اليوم، لذا كنت أقرأ الكتب في الليل فقط.

دونالد هول: في الثمانين من عمري، عدت إلى فندقي متفهمًا أنهم صفقوا بحرارة لأنهم ربما لن يروني مرة أخرى أبدًا

كانت جين تستغرق في النوم بسرعة، ولا تمانع وجود الضوء في جهتي من السرير. قرأتُ "تاريخ ضعف وسقوط الإمبراطورية الرومانية" وستة مجلدات ضخمة من مراسلات هنري آدمز. وأعدت قراءة آخر روايات هنري جيمس مرارًا وتكرارًا. بعد وفاة جين، واصلت قراءة الكتب، في البداية كنت أقرأ فقط لكتّابٍ الجريمة أو العنف مثل كورماك مكارثي. اليوم أنا أكبر بأربعين سنة من عمر جين عند وفاتها (توفيت جين في السابعة والأربعين)، وأدرك أنني خلال سنة لم أكمل قراءة كتاب واحد!

اقرأ/ي أيضًا: كواليس رولد دال

يصبح الرياضي محترفًا في العشرين من عمره. وفي الثلاثين يصبح أبطأ لكن أكثر حكمة وبراعة. في الأربعين يخلف وراءه الهوية التي ولد لأجلها والتي ساندته ودعمته طوال مسيرته. ويبدأ في التضاؤل في الخمسين والستين والسبعين من عمره. أيّ شخصٍ طموح عاش طويلًا أو حتى أصبح عجوزًا، يتحمل الخسارة الحتميَّة المتمثلة في استحالة "إشباع الطموح". عندما كنت في دار للمسنين بهوليوود لمقابلة صديق؛ شاهدت امرأة مسنة جميلة تجلس على كرسي متحرك، لم أتمكن من التعرف عليها، قفزت في نشوة عندما سرت نحوها قائلةً "مُقابلة!... مقابلة!" عادة ما يستمر الكاتب في عمله حتى مرحلة متقدمة من عمره .

عندما كنت في الثمانين من عمري -وكنت وقتها ما أزال أقوم بندوات متكررة لإلقاء الشعر- وقف الجمهور مصفقًا لي عند انتهائي، وواصلوا التصفيق حتى طلبت منهم التوقف، بالطبع بقيت للتوقيع على كتابٍ بعد كتاب، وعدت إلى فندقي متفهمًا أنهم صفقوا بحرارة لأنهم ربما لن يروني مرة أخرى أبدًا.

لنفترض أنني شجرة القيقب تلك خارج شرفتي، والبالغة من العمر مئة وخمسين عامًا. عندما يبدأ الشتاء في التحرك نحو الربيع، أُخرج أوراقًا صغيرة، والتي تتموج تدريجيًا بلون أخضر مائل إلى الصفرة، ثم تكبر وتتوسع، متحولةً إلى اللون الأخضر الداكن وتزدهر خلال فصل الصيف.

في أيلول/سبتمبر، تتسرب بقع برتقالية إلى الأوراق الخضراء، ويُحوّل تشرين الأول/أكتوبر لون أوراقها بروعة وإشراق إلى الأحمر والبرتقالي. ثم تتساقط الأوراق، تاركة الفروع خالية، ولا يبقى سوى القليل منها على الفروع في كانون الأول/ديسمبر. وفي كانون الثاني/يناير ترفرف آخر الأوراق الناجية على الثلج. هذه الأوراق السوداء هي الكلمات التي أكتبها.

في الماضي، كنت أكتب طوال اليوم، وأستيقظ في الخامسة صباحًا. أما الآن، فأستيقظ في السادسة بتثاقل شاعرًا بوخز في جسدي، أو أتقلب في السرير مرتجفًا متألمًا حتى السابعة صباحًا. أحتسي القهوة قبل أن أمسك بأي قلم. ثم أتصفح الجريدة. أحاول أن أكتب طوال الصباح، لكن ينال مني الإرهاق بحلول العاشرة صباحًا. أُملي على مساعدي مُراسلة. وأغفو قليلًا. أستيقظ لتناول وجبة غداء خفيفة من البسكويت وشطائر زبدة الفول السوداني، يتبعها إرهاق متواصل. مساءًا أشاهد مباريات بيسبول على التلفاز، وبين أشواط المباريات أطلع على مراجعات الكتب في صحيفة نيويورك تايمز. أتقلب طوال الليل. ثم، الإفطار... القهوة... وهكذا.

عندما كانت جين على قيد الحياة، كان كلبنا جاس يحتاج إلى التمشية كل يوم. كانت جين تتمشى معه عندما تستيقظ، قبل تناول الإفطار وهي شاعرة بالنعاس. عندما يغادروا كنت أرفع يدي عن الصفحة وألوح مودعًا لهم. في منتصف اليوم، نتناول الغداء ونغفو قليلًا، ثم أتمشى أنا مع جوس.

دونالد هول: سعيًا مني لتسديد قيمة الرهن العقاري في أواخر السبعينات والثمانينات، كنتُ أنشر في بعض السنوات أربعة كتب

في سيارتي، أقود بصحبته حتى  شارع "نيو كندا"، الطريق الترابي بالقرب من منزلنا، أركّن السيارة في المنطقة التي يتسع فيها الطريق ذي الحارة الواحدة. ونتمشى على الأرض المنبسطة، ليس لفترة طويلة لأنني أريد العودة من أجل العمل على المخطوطة الرئيسية مرة أخرى. الآن عندما يجلب أحدهم كلبًا إلى المنزل، أجلس مُحصنًا نفسي في كرسي كبير،  لأن الكلب الفطن النشيط ربما يتسبب في كسر وركي.

اقرأ/ي أيضًا: رسائل إدوارد سعيد إلى صادق جلال العظم

لويز هي قطتي. قبل عشر سنوات، تسللت شقيقتها النشيطة ثيلما خارج المنزل واكتشفت الطريق الرابع "طريق سريع". حفر مساعدي كيندل حفرة، ووضعنا نصف برميل على القبر لمنع الحيوانات الجائعة من الاستمتاع بتناول ثيلما كوجبة خفيفة. لويز خاملة. خجولة جدًا لدرجة تمنعها من الانطلاق مسرعة خلال باب مفتوح. في الليل، عندما أشاهد محطة MSNBC التلفزيونية، تزعجني بفرك ركبتي، لكنها لا تهجم أو تقفز عليّ أبدًا.

سعيًا مني لتسديد قيمة الرهن العقاري في أواخر السبعينات والثمانينات، كنتُ أنشر في بعض السنوات أربعة كتب. الآن، يتطلب الأمر مني شهرًا لإنهاء سبعمئة كلمة. ها هي في الأعلى.

اقرأ/ي أيضًا:

تزفيتان تودورف.. صوت متفرد في زمن "البرابرة"

أمبرتو إيكو.. تاريخ القبح أم تأريخ لسلطة الغرائبية؟