07-يوليو-2017

إدريس وضاحي/ المغرب

كم من الغريب أن توقظ شمسٌ مدينةً هي لا تعترفُ بها، فترى الشمس لا تعترفُ بزرقةِ مائها أو بُنيانها، وبهذا فإن أحدهما دخيلٌ على العالمِ إجمالًا. فإذا آمنّا بوجودِ شمسٍ وقمرٍ خاصَيْنِ بكل منطقةٍ، تكون هذه المدينة هي الدخيلةُ على عالمِ الأقمارِ والشموس.

سؤالنا القديم الممل؛ ماذا تتركُ المدن في الإنسان؟ وهو الذي لم يعتد البقاء في ضجيجٍ لا ينتهي في حيواتهِ السابقة. فالمدن الحديثة إما تُخلقُ لحياةِ الناس اليومية؛ من أماكن لقاء وراحة واستجمام، وإما تُصنَعُ للمباني والسيارات والآلات، وكلُ مُصممِ ظلمَ وانتصرَ لما يريد.

لشخصٍ يعشق المُدن ويفضلها ويرتاحُها في زحامها، تصبح المُدن المختلفة إما ملهمةً له أو مُضرة، مضرّة لحدٍ تؤذيه أم تريحه. في مكانٍ لا ينتهي فيه الضجيج، يجد أحدهم نفسهُ ضائعًا في الضجيج، في الصوت، غير قادرٍ على إنتاجِ ما ابغتاه من عُزلة المدينة.

سؤالنا الأحدثُ نسبيًا، لماذا لا نُقدِم سوى الاعتذارات للمدن، فمقابل كل مجموعة اعتذارات أرى امتنانًا وشكرًا مرافقًا لاعتذارٍ جديد، لماذا لا نتوقف عن الاعتذارات لمدننا الحبيبة؟ يا أعزائي الكاتبين، لا تقدموا اعتذارات لمدنكم إن رأيتموها تتغير لشكلٍ لا تريدونه، لا تعتذروا لها بعد أن فتنتم بتناقضاتها وولادتها لشكلٍ جديد، لا تعتذروا لمدنٍ شكلتكم وشكلت كل ما في تناقضاتكم التي تصالحتم معها الآن.

لا تعتذروا لمدنٍ وضعت جيلًا بعد جيل وفتنتم بها سابقًا. 

نعودُ إلى المدينةِ المسكينة التي بدأنا بها، تلك التي لا موقعَ لها مع العالم. أيتها المسكينة لماذا تحاولينَ إقحامَ نفسكِ بالإجبار في سيرِ العالمِ السريع، ثم تحاولينَ العودة بنفسكِ لما قبلَ الأفكار؟ أيتها المسكينة لماذا لا تقبلين المدينة، فقد كنتِ صغيرةً مسكينة، قررتِ بناءَ نفسكِ في وقتٍ قياسي، ثم طلبتِ من البناء التجانس مع كل ما ليسَ متجانساً فيكِ. بَنيتِ أبراجاً تحاولُ معانقةَ السماء ولكن بداخلها حاولتِ تطبيق عقلِ ما قبل العُمران في المنطقة. تريدين أن تكوني مدينةً ضخمة لا تنام، ومن ثمّ تفرضينَ القيود على ما صنعت، فتصممينَ الشوارع للجماد لا للناس. 

أنتِ أيتها المسكينة تُخَزِنينَ الناس فيكِ ولكن لا تدعينهم يؤمنونَ للحظةِ فيكِ، وهذا الفرق الضخم بين هذه المدينةٍ السوداء التي تبني نفسها وبين مُدن السوادِ الأخرى التي تمكنت من بناءِ الانتماء واللانتماء في نفَس النفس. في هذه السوداء المسكينة أنتَ لا تظنُ للحظةٍ واحدة أنك تنتمي فيها أو لها، في مُدنِ السوادِ الأخرى أنت تُنمي الحبَ لها ولقادتها حتى عند معرفتكَ ضمنيًا أنك ستطرد في أي لحظة، لكنها لَعِبَتْ لعبةً الانتماء بدهاء.

في مدينةٍ خاوية كهذه المسكينة ترى أناسًا من كل الجنسيات يفتقدون التواصل، فتبني المدينةُ المسكينة، التي تحاول ألا تكون مزيفة، طبقات وهمية تقف بين الإنسان ونفسه، تجعل الشخص يُشككُ بنفسه وبما كان قيّمًا.

في مدينةٍ لا تنتمي لها شمسها ولا بريقَ في قمرها، تشعرُ بسعادةٍ غامرة عندما ترى مراهقين، فكأنهم مُغيبون من الصور، ترى عازبين يملأونها، أو أزواجٌ جدد أتوا للبحثِ عن السوادِ والخَضارِ، وما زالوا يُسائلونَ أنفسهم، هل نزرع الأطفال في أحشائنا وأحشاء هذه المدينة المسكينة. فأنتَ قليلًا ما ترى نساءً حوامل في هذه المدينة، إما أطفالٌ صغار أو أزواجٌ وعُزابٌ أكثر، المراهقون في الشكل والعمرِ قلّة، ولكن جزءاً لا يُستهانُ به من سُكانها وكأنما حُرِموا من مراهقتهم وأدركوها في أواخرِ العمر، وأرادوا إحياءها مجددًا.

مدينةٌ مسكينة لم تصمم للسُكان. مدينةٌ مسكينة جعلت كلَّ من فيها يشعر وكأنه على وشكِ الرحيل، فلا يُخلِصُ في بناءِ حجرٍ واحد. مدينةٌ حَمّلوها أكثر مما تتحمل وهي كطفلة ساذجة، أعدموا طفولتها وألقوا فيها صورتهم المشوهة عن العولمة المتداخل في التراث.

مدينةٌ مسكينة لن تعتذر لأحد، ولن يلتفتَ لها أحدٌ إن وقعت. مسكينةٌ مسكينة.

نعودُ لمدينتنا الأخرى، لا تَعْتَذِرْ لمدينةٍ تطورت وشَكلت في أبنائها التناقضات فالحياة، بالعكس، اشكرْها واسمحْ لها أن تكبر وتتغير وتستقر، اسمحْ لها أن تلدَ أبناء التناقضات الجديدة، كما وَلَدتكَ يومًا. اسمحْ لها أن تعبرَ عن نفسها كما تراها، لا كما تريدونها أنتم. اتركوها وأحبوها كما كانت وتكون، فهي الحقيقة الموجودة في زمن المساكين المزيفين، هي الحقيقة التي نَحتت أرواحًا عديدة في كل من عاشها. أحِبَّها واتركها تكون كما عَهِدناها، أم العواصم.

 

اقرأ/ي أيضًا:

درعا التي خلقها الله ليلًا

ضربة فرشاة على قماشة البحر