12-فبراير-2021

بيروت وقت الذروة، في 21 كانون الأول/ديسمبر (Getty)

منذ ساعتين، ولا أعرف كم يصبح عدد الساعات بالتزامن مع نشر هذا المقال، كان هناك خلاف على أفضلية المرور، في أحد التقاطعات الفرعية في بيروت. مرّت سيارة الإسعاف بالقرب من الجماهير، على الأرجح لنقل مصاب حالته حرجة بفيروس كورونا، وتوقف أشخاص يضعون الكمامات لكي يلقوا نظرة على المشهد، وأشخاص آخرين لا يضعون شيئًا، وزجوا بأنوفهم في الخلاف أيضًا. ولا يمكن لومهم، فالأحداث تكرر نفسها، والملل يكرر نفسه، مثل هذه الجمل تمامًا. وإلى جميع هؤلاء، خرج بقية المتفرجين إلى شرفات منازلهم، ولم يكن مهمًا لهم أن يعرفوا السبب الحقيقي لهذا الخلاف العظيم، بقدر ما أن الزعيق تطور إلى درجة لم يعد تجاهلها ممكنًا.

لا أحد يعرف من أين يأتي الموزعون بالماء في بيروت، ولماذا لا يمكنها أن تأتي إلى بيوتهم، طالما أن الموزعين يجدونها في مكان ما

خلال الساعتين، حاول المختلفون، على أفضلية المرور، أو على الأحقية بركن سيارة – وهذا ليس أمرًا يتوجب توضحيه على أي حال – أن يضربوا بعضهم البعض، ولكن الجماهير حالت دون ذلك، فاستعاضوا عن ذلك بالزعيق، لاستكمال الحفل. في المرحلة الأولى، كان الرجلان لوحدهما، يتبادلان الشتائم بود، على نحو يشي بأنهما معتادان على الأمر، ولم يكن هناك ما يدل بأنهما سيبقيان على هذا النحو حتى ساعتين. فالحقيقة أن لا شيء يستدعي كل ذلك. ولكن الرجلين، بشجاعة بالغة، تفوق الواحد منهم على نفسه، كما تقول كتب الأدب التعيسة، واستمرا في استعراض الزعيق لساعتين كاملتين.

اقرأ/ي أيضًا: فورين بوليسي: انفجار مرفأ بيروت هو "تشيرنوبل لبنان" 

في شارع آخر، كان موزع الماء يفرغ حمولته في خزانات أحد المباني. فالماء مثل الكهرباء، مقطوعة دائمًا في بيروت، ويتوجب على الناس أن يشتروها. ولا أحد يعرف من أين يأتي بها الموزعون، ولماذا لا يمكنها أن تأتي إلى بيوتهم، طالما أن الموزعين يجدونها في مكان ما. لكن هذا ليس مهمًا، وهم بصراحة استسلموا تمامًا. يعلن الموزع عن قدومه غالبًا بالصوت القوي الذي يصدره محرّك الشاحنة، والذي يترافق عادةً مع صراخ الشبان المتحلّقين حوله، وهم يتناقشون في كرة القدم والسياسة. وعندما ينتهي الموزع، يأتي بعده بنصف ساعة، أو أقل بقليل، موزع آخر. وتتكرر العملية نفسها، وهذه المرة أيضًا، كما في المرات السابقة، بل يثقب المحرّك القوي آذانهم، ولا يعترضون على أنهم يدفعون ثمن الماء بدلًا من أن تصل بيوتهم، وليس لديهم أي نية على ما يبدو في الاعتراض على "العَود الأبدي" في تفريغ حمولات المياه. وأحيانًا يهطل المطر بغزارة على "وطن النجوم". لكن صوت المحرّك الرهيب يطغى على صوت المطر، لأنه لا يمكنهم ببساطة أن يفتحوا الخزانات لكي تمتلئ بالمطر. وليس لديهم الوقت لإضافة نظرية من نظريات لاكان لتفسير العدالة. يقبلون بالضجيج مجددًا، ويقبلون بأن يدفعوا ثمن المطر.

وإذا عبرنا شارعًا إضافيًا، أو شارعين، أو حتى ثلاثة شوارع، خاصةً في الضواحي على أنواعها، سنكتشف أن الدراجات النارية لا تحتسب دراجات، إلا عندما تصدر الأصوات القوية. القارئ الأشد بذاءة الآن هو الذي سيشعر أنه صاحب اكتشافات عظيمة، إذ يحيل ملاحظة الاشكمانات إلى أدوات تحليل طبقية. الضجيج ليس طبقيًا، الضجيج عقاب. والدراجات التي تعبّر في طبيعتها عن نمط من الحرية والتميّز، يعتقد سائقوها بوجوده، ليست تمثيلًا نهائيًا للحرية، بل هي مجرد وسيلة. وإن كان التمرد على المجال العام بإصدار الصوت مفهومًا، فكيف يمكن أن يفهم تحول المجال العام إلى مجال للضجيج، ويصير الخارج عن الضجيج، خارجًا عن المجال العام، ويصارع ليكتسب اعترافًا. هناك من يفضّل الدراجات على وسائل النقل العام، لأن ذلك يتيح علاقة مباشرة مع الهواء، لأن الدراجات لها طابع فرداني دائمًا. يمكنك أن تتنقل حيثما شئت وكيفما شئت، من دون أن تضطر للنظر في عيون الآخرين، وبتكلفة متدنية تمامًا. وهناك من يفضّل الدراجات لأنه لا يحب الازدحام في وسائل النقل العام. ولكن بما أنه لا يوجد نقل عام في لبنان، فإن جميع اللبنانيين فردانيين، ولا شيء فعلًا يدل إلى رغبتهم بوجود وسائل نقل عامة. ما هو ليس مفهومًا، خاصةً بعد الانتهاء من المراهقة، هو العلاقة العاطفية بين السائقين والاشكمانات المثقوبة.

فإن كان القصد هو الاعتراض أو التذكر أو اعلان ما يمكن إعلانه، فستوجد طرق أسهل لذلك. في النهاية هذا التنظير الفارغ يعرف أن للسائقين أسبابهم وعلاقاتهم الخاصة مع دراجاتهم، وأنه لا يمكن لومهم على ذلك. وأنه في مدينة مثل بيروت، كانت مدينة منذ ثلاثين عامًا في أقرب تقدير، لا يبدو أننا نملك ترف الحديث عن "مجال عام".

يتجاهلون الأصوات لأنهم يعتقدون أنها تختفي، أو تتدحرج صعودًا نحو السماء، بينما تبقى الشواهد البصرية على التحلل ماثلة أمامهم

في النهاية يتوجب الاعتراف أن المدن أصوات أيضًا. ولا نتحدث عن فترة الحجر، لأن الأصوات تختفي عادةً. لكن ليس في بيروت طبعًا، لأن الرؤوس الحامية حامية. وتاليًا، تستمر في تصدير الضجيج، لتميّز نفسها عن هؤلاء الخانعين في منازلهم، والذين لم ينزلوا إلى الشارع لممارسة أفضل وسيلة للاعتراض: اللا اعتراض، تمامًا كما أن أفضل وسيلة للسياسة في لبنان صارت اللا سياسة، ولم يعد الاقتصاد اقتصادًا.

اقرأ/ي أيضًا: كيف كان وجه بيروت عام 1900؟

يبدو أننا استبدلنا كل شيء هنا بثروة لا تقدّر بثمن: الضجيج. صحيح أن العمارة تشكّل التصور الأساسي في وعي الكثيرين عن المدينة، لكن ربما لأن المقيمين والزائرين على السواء، يتجاهلون الأصوات لأنهم يعتقدون أنها تختفي، أو تتدحرج صعودًا نحو السماء، بينما تبقى الشواهد البصرية على التحلل ماثلة أمامهم. وربما تكون الأصوات القوية والضجيج دليلًا إلى الفرح أحيانًا، وربما في أغلب الأحيان. لكن لا رقص في بيروت ولا غناء أخيرًا. حداد رهيب ومستمر يعبّر عن نفسه بما لا يدل إلى طبيعته، أي بضجيج لا يتوقف. سيارات، أبواق، أناشيد محلية ومستوردة، تعذيب موسيقي يسمى بالأغاني، ثرثرة، زعيق الذكور في الشوارع، اشكمانات، أصوات من التلفزيونات، وغيرها الكثير من الأصوات، التي تدل إلى أن هذه المدينة غير قادرة أن تهدأ، أن تعترف، أن تجلس قليلًا وتفكّر.

 

اقرأ/ي أيضًا:

في بيروت.. زحمة يا دنيا زحمة

بيروت مدينة من؟