25-سبتمبر-2016

فتى مع دراجته في عامودا/ ربيع 2016

كانَ اليوناني قسطنطين بيتروف كافافيس قابعًا هناك في كلّ الزوايا، يرتّل لوحده على مسامعنا نحنُ الصغار شعرًا، قصيدة المدينة لنتذكّر من غادر بلا ندم، شيء مذهل أن تكون المدينة مخيفةً ومؤلمة ومريحة في آنٍ معًا، ثمّة سحر ما خفيّ يلوّح في أفق المدينة كلّ غروب، قبل اثنتي عشرة سنة حينَ كانَ الأدب طاغيًا، في كل شارع من شوارع المدينة يغرّد شاعر وعلى كلّ رصيف يقتعدُ روائيٌ، أو ربما فنّان تشكيلي مسّه الجنون فباتَ لا يغادر الشوارع وأمام أبواب الحوانيت الطينيَّة، لا يزال كلّ ذلك حيًا وأمام الأبصار، سوى ملامح بعض الوقاحة في البناء والإعمار بفضل شطحات تجّار الحروب والعَقارات ومبيضيّ الأموال وتكاثرهم المريب إبَّان اندلاع الثورة السوريَّة، لا يغيب عن العين مشهد العجَزة اليائسين من كل شيء وهم يفترشون الرصيف الذي أمام المنزل ليلعبوا "الداما"، بكلّ حماس وتركيز، وكأنْ لا شيء يحصل على بعد كيلومتراتٍ قليلة، ناهيك عن العجز لدى النساء المسنّات وهنّ يرتبّن البيوت، وبكل ما آتاهم الربّ من صراخٍ عميق ينهرن الأطفال اليتامى الذين يثبونَ كالقطط على أسطح البيوت الطينيَّة.

بعد سنواتٍ طويلة من العتمة وانقطاع سبل الحياة تغدو المدينةُ كأنّها تستعيد عافيتها ولكن بذكرياتِ أجيالٍ جديدة

الآن، العام 2016 وبعد سنواتٍ طويلة من العتمة وانقطاع سبل الحياة تغدو المدينةُ كأنّها تستعيد عافيتها ولكن بذكرياتِ أجيالٍ جديدة، إلّا أنّ الذكريات تلك تبقى عالقة في كلّ ركن، لا يمكن لأحدٍ أن ينسى أخيلة الشعراء الذين غادروها مجبرين للعثور على فرصة عيشٍ أو نشرٍ أو عملٍ ما، غادروها نحو بيروت أو دمشق أو إحدى البلاد الأوروبيَّة، ظلّت المدينة قابعة في أحضان دماغ من رحلوا ولا يمكن رمي الصور العتيقة أو جلسات شرب الشاي عصرًا أمام أبواب البيوت طوال أيّام أيلول من كلّ عام.

اقرأ/ي أيضًا: الحصان الذي لم يسر بصاحبه صوب الهاوية

الثقافةُ جزء من تراث المدينة

قال عن تلك المدينة، عامودا، ذات مرّة الشاعر السوري لقمان ديركي "بلد المليون شاعر"، فيما ومِض لذهنه الساخر من تحريف للعبارة الأصليَّة لإحدى البلدان العربيَّة! كان يعتقدُ القارئ لهذا النعت أن ثمّة مغالاة، غير أنّ الشاعر على حقّ فيما أطلقهْ، شعراء كُثر غادروا المدينة، بقيت كتاباتهم منشورةً في الجرائد السورية وبالتحديد ملاحقها الثقافيَّة، كنّا ننتظر كل ثلاثاء ملحق الثورة الثقافي، كانت الطائرة تتأخّر في إيصال العدد إلى المدينة عبر مطار مدينة القامشلي التي تبعد فقط 30 كيلومترًا، على مدار أعوامٍ طويلة جدًا كان من المستحيل أن يمرّ عدد دون أن يحوي قصيدةً أو مقالًا لأحد شبّان المدينة، كانت المدينة صغيرة جدًّا وبحجم كفّ اليد، وكنّا نعرف من هو الشاعر ومن هو المغنّي ومن هو الفنان التشكيلي، كل ذلك كان واضحًا للعيان لمجرّد قراءة الاسم على صفحات الجرائد الوافدة. 

ومن ثمّ بعد دخول الإنترنت بتنا نتعرّف على بيروت التي تحتضن الكتّاب الكرد وتحبّهم، كنت أعتقد أنّ بسام حجّار هو ابن أمي وأن وديع سعادة هو جدّي الأكبر!! في كلّ الجلسات قرأنا لوديع ولبسّام وعباس بيضون وآخرين كُثرٍ دون رتابة، الآن، أسمع صوت الصديق وهو يقرأ وبصوتٍ عال في شارعٍ مظلم مقتطفات مِمّا دوّنه النفريّ، وكأنّ النفريّ كانَ موجودًا بيننا تلك اللحظة! والآن، أيضًا، لم يبقَ شيء، غادرتنا القصائد وأقبلت الحرب وتبعثر العالم الصغير ليتحوّل إلى مكانٍ كبير لا يتّسع ولو لِنملَة.

الشارعُ نقطةً عسكريَّة: 

كانت المدينة مشتهرةً فيما كان يقوله لنا المسنّون بأنّ شوارعها صنيعةَ ذهنٍ إفرنسي أنيق البناء، شوارع طويلة ومستقيمة جدًّا، وكأنّ المهندس كان مولعًا بالدقَّة في الرسم والتشكيل، كان يقولُ جدي -وأنا معتقد في ذهني أن ما يقوله أسطورة-: "الشوارع كانت مستقيمة كي لا يتمكّن الناس من عصيان الأوامر الأمنيَّة للسلطات، وليتمكّن القنّاص من قنص طريدته البشريَّة!!"، لا يزال المستوصف الفرنسي موجودًا بكامل أناقته، وأيضًا الكنيسة الوحيدة التي هجِرت لسنواتٍ ومن ثم تمّ إعادة فتحها بعد انتشار مفهوم السلم الأهليّ، وكأن السلم الأهلي لم يكُ موجودًا والناس كانت دونما فوارق تعيش معًا وحتّى الراهن من الأيَّام! في كل شارعٍ طويل الآن ممرٌّ عسكري لقواتٍ أمنيَّة وثمّة سواتر إسمنتيَّة تعيق الحركة، نحنُ نقول إن زمننا زمن حرب ولا بدّ من احتياطٍ ما، لكن جاري يقول إنّه اضطرّ إلى أن يغيّر طريقه المعتاد الذي كانَ يوصله إلى دوامه الوظيفي منذ أكثر من عشرين سنة! للأحجار أرواحٌ تشعرُ بالغياب وللناس قدرةٌ على التخيُّل، هذا كلّ ما في صُلبِ الحكاية. 

المكانُ هبة الربّ للإنسان، وتورية للجروح التي لا تجد الطريق لأن تندمل

اقرأ/ي أيضًا: "أجمل نساء المدينة": فانتازية بوكوفسكي

لا أريدُ لهذي القصيدة أن تنتهي:

المكانُ هبة الربّ للإنسان، وتورية للجروح التي لا تجد الطريق لأن تندمل، فقط يرتدي الجرح قناع الشفاء، فما قاله الشعراء عن المدن لا يزال يُقرأ في مخيّلتنا بكل هدوءٍ وهمس، وأكثرها قصيدة المدينة تلك التي كتبها الإسكندرانيّ كفافيس، بقيت مدوّنةً في الدفاتر المدرسيَّة بخطٍّ يدٍ وسيم، أو ربمّا سافرت مع من غادر المدينة من الشعراء، الجنونُ صفةُ المدينة أيضًا، كانت تُضفي عبقًا آخر يزيد من وعورة التجوّل ليلًا، والمقبرةُ التي تتسّع يومًا إثر يوم متخيّلين أنّها سوف تغزو كامل المدينة مستقبلًا لتغدو مقبرةً هائلة، لم نبرح نعتقد! ولكن هل انتهت القصائد التي قرأناها تحت أسقف البيوت الأليفة؟ 

هذا هو السؤال الضخم، هل انمحى الطريق الترابي الطويل في الجهة الشماليَّة للمدينة والذي يُفضي مباشرةً إلى الحدود التركيَّة (عدوّة الأطفال والذاكرة)؟ لا، ثمّة من يرسم بالألوان على السماء قصائد هادئة ومتّزنة عن المدينة، قصائد لن تنتهي بسهولة، كمّ الكلمات التي قيلت في زمنٍ مضى كفيلةٌ بأن ترسم عالمًا كاملًا من القصائد التي لا تنتهي. 

خمّارة سعيد جرجس: 

من أكثر الأماكن رأفةً، جّةٌ قادمة من دمشق العاصمة، ومن مختلف أصقاع الأرض، ابتسامة العمّ المسيحي سعيد، كلّ ذلك باتَ مشهدًا بالأبيض والأسود لمدينةٍ قديمة طوت ذاكرتها واقتعدت الأرض تدمع، فجّرها دعاةُ الدين الجدد ونسفوا ذكرى كلّ من جلس يحتسي النبيذ المغشوش ويخرج نشوانًا بفعل صمت العمّ المسيحي، سليلُ العائلة المسيحية الوحيدة التي أبت مغادرة المدينة، هكذا بضغطةِ زرّ ما خياليَّة ينفجر المكان بلا عقاب وينتهي كلّ شيء.

صورةُ المدينة:

الرسّام الذي مسّه الجنون لأنّه كان يودّ أن يرسم الله، صرخاته من النافذة نحو الأزرق الهادئ ممزِّقًا الأوراق البيضاء: "سأتمكّن من رسمك ذات مرّة أيّها الربّ"، غرفته الطينيَّة التي كانت تحوي رسومًا وتصوراتٍ مختلفة كعالِمٍ إغريقيّ محارَب من مجلس الكهنة بدعوى المسّ بالنواميس الإلهيَّة، استراح إلى الأبد، سيرى الله الآن وسيتمكّن من رسمه بكلّ تأكيد، وقديمًا قالها مجنونٌ آخر: "إن كنتَ تودّ أن تعشق المدينة القديمة فابتعد عنها"، وصفةٌ ناجعة للعيش داخل النفس بحريَّة، ولننتظر مدينةً أخرى ستوجدُ أفضل من هذه.

اقرأ/ي أيضًا:

دفاعًا عن الكاتبات المتزوجات والعاملات

ماذا لو لم يكن ثمة عاهرات؟!