01-سبتمبر-2020

مشهد من عمان وسط القرن 20 (Getty)

حسنًا فعل خالد سامح حين اختار لروايته عنوانًا من كلمة واحدةٍ مُكثّفة تختزلُ في طيّاتها أبعادًا عدّة، فـ الهامش(1) الذي أراد له الكاتب أن يصير متنًا، ظلّ إلى حدّ كبير مُخلصًا لوضعيّته التي يرتبط بها ارتباطًا عضويًّا، ومن زوايا متعدّدة: فالمدينة التي تدور فيها الأحداث، عمّان، تقع –غالبًا- على هامش التّفاعلات الإقليميّة، تتأثّر بها ولا تُؤثّر؛ والفرد فيها هو هامشٌ آخر على هامشها، مسلوخٌ عن إمكانيّاته السياسيّة والاجتماعيّة بواسطة سلطةٍ تحتكر الحُكم وتَفْرُمُ -في سعيها لترسيخ ذلك الاحتكار- أيّة إمكانيّة لنضوج السّياسة والاجتماع، وموجودٌ في سياقٍ لن يساعده أبدًا (بل هو عقبةٌ في طريقه) إن أراد وقرّر التّغيير، إذ سيصطدم، أوّل ما يصطدم، بجدار تصحّر الواقع الموضوعيّ نفسه، قبل أن يصطدم بالتيّارات السياسيّة الانتهازيّة بشعاراتها الفارغة، وقوات مكافحة الشّغب بهراواتها الصّلبة، وهو ما تبحثه الرواية في جزء منها لتؤسّس لهامشيّة المجتمع المُسيّس، أو لتقول أن هامشيّة السّلطة في سياقها الإقليميّ والدوليّ، تنبع من تهميشها وتفكيكها وقمعها للمجتمع الذي تتسلّط عليه في سياقها المحليّ.

يبرز الهامش العمّاني في رواية خالد سامح عبر المأساة العراقيّة، ويتضخّم بها، كامتدادٍ لتضخّمات سبقتها، ابتدأت منذ نشوء الإمارة في سياق التّسويات والتّداعيات الاستعماريّة للمنطقة

"وحدها عمّان تمتصّ كلّ الصّدمات، وترقب بحذرٍ حريق كلّ الجهات."(2)

الشخصيّة الرئيسيّة في الهامش موغلةٌ في وضعيّتها الهامشيّة، فحازم، وإضافة لكونه جزءًا من عمّان، وجزءًا من مشهدها السياسيّ الديكوريّ العاجز باعتباره ناشطًا تقدّميًّا، هو أيضًا صحفيّ، خاضعٌ لأوامر رئيس التّحرير الذي يتلقّى بدوره الأوامر من الجهات المسؤولة والدّوائر الامنيّة، وتعبّر صحيفته عن وجهة نظر السّلطة ولا شيء غير ذلك، وسيضطرّ (من أجل لقمة العيش) أن يُساير ويُسايس ويُناور ويتحمّل، مُعمّقًا –في خضمّ ذلك- كراهيته لنفسه، واعيًا قيامه بتسوياتٍ تناقضيّة يُضطرّ إليها، لكنّها تُكسّره وتُشظّيه وتذلّه أمام نفسه، وتضعه وجهًا لوجه أمام واقعه الهامشيّ المُرّ؛ وفوق هذا الوضعيّة المركّبة، يظهر ضعفه أمام لهيب، المرأة العراقيّة القويّة، التي لم تكسرها نتائج الغزو الأميركيّ للعراق وما تلاه من حروب طائفيّة، ولم تحطّمها تجربتها الشخصيّة المأساويّة، بل صلّبتها وشوّهتها في آنٍ معًا. ينجذب حازم الضّعيف إلى مصدر القوّة المُشوّهة ذاك، لكنّه –طبعًا- سيحترق بلهيبه ويضيع، ففي عالم الأقوياء، حتى أولئك منهم الذين دعستهم المأساة ثمّ خرجوا من رحمها بعد أن فهموا اللّعبة متأخّرًا، أو اضطرّتهم ظروفهم لفهمها والانخراط فيها، لا مكان للضّعفاء والهامشيّين.

اقرأ/ي أيضًا: كتاب "ثلاث سنوات ونصف مع ناظم حكمت".. ذكريات ويوميات ومراسلات

والهامش العمّاني يبرز في هذه الرواية عبر المأساة العراقيّة، ويتضخّم بها، كامتدادٍ لتضخّمات سبقتها، ابتدأت منذ نشوء الإمارة في سياق التّسويات والتّداعيات الاستعماريّة للمنطقة، وكمتطلّب لتحييد القوى الاجتماعيّة-السياسيّة الفاعلة ومراكزها في السّلط وإربد وعجلون والكرك، فكان أن اختير الهامش العمّانيّ مركزًا للسّلطة المستجدّة الناشئة على يد التفاهمات الاستعماريّة البريطانيّة-الفرنسيّة التي رسمت حدود جميع كيانات الإقليم، فتضخّمت القرية لتصبح عاصمة الأمير الجديد، ثم كان أن جاءت تهجيرات الفلسطينيّين أعوام 1948 و1967 لتضيف تضخّمًا جديدًا، تلتها هجراتٌ أقلّ وطأةً من لبنان (أثناء الحرب الأهليّة 1975 - 1990) وسوريّة (بعد مجزرة حماة عام 1982)، ومن بعدها عودةٌ فجائيّةٌ لمئات آلاف المواطنين الأردنيين إثر طردهم من الكويت بين عامي 1990 – 1991 خلال وبعد حرب الخليج الثّانية، ثمّ موجةٌ من العراقيّين الهاربين من جحيم الغزو الأميركيّ وتداعياته عام 2003 وما تلاها. وهذه الأخيرة تحديدًا هي الفترة الزمنيّة التي تدور فيها أحداث الرواية، وإن استبطنت داخلها، واستدعت أحيانًا، التدّاعيات الأسبق.

تستحضر الرّواية هوامش أخرى إلى جوار الهامش المركزيّ، فبعض أحداثها تدور في الزرقاء، المدينة التي توسّعت بشكل سريعٍ وفوضويّ هي الأخرى دون أن يكون لها امتياز المخصّصات الماليّة والتنظيميّة التي للعاصمة، ومن ذكاء الرواية أنّها تلتفت إلى أن هامش الهامش هذا قد أنجب (ويا لسخرية الأقدار) شخصيّة محوريّة ومركزيّة في تاريخ تقلّبات المنطقة ومصائر سكّانها: أبي مصعب الزرقاوي؛ ومن ذكاء الرواية أيضًا أنّها لا تتتبَّع المكان الزرقاويّ من حيث هو جغرافيا مكانيّة، بل من حيث هو تفاعل مجتمعيّ، بوتقةٌ تتركّز فيها مختلف النتائج الاجتماعيّة للقهر والقمع والفقر والفساد، تنفقئ –بين حين وآخر- كالدّمامل المُتقيّحة، تاركةً ندوبها في ذهن "بطل" الرواية، مرّةً على شكل انتحار، وثانيةً على شكل جريمة شرف، وثالثةً على شكل انخراطٍ في صراعات المنطقة العنيفة عبر تنظيم "إرهابيّ"، ورابعةً عبر حبيبةٍ صارت زوجةً ثانيةً لثريّ مُقيم في السعوديّة، وهكذا.

وإن كانت عمّان هامشًا فيما يتعلّق بالتأثير على الأوضاع المحيطة بها، فهي رغم ذلك مركزٌ لجهة امتصاص آثار النتائج وتفريغها وتصريفها، وتلفت الرواية إلى ذلك عبر تركيزها على تجربة اللّجوء العراقيّ إلى عمّان إثر غزو العراق عام 2003، ومفاعيل تلك التّجربة بالمعاني الاقتصاديّة والاجتماعيّة والثقافيّة، وأيضًا عبر شخصيّة حسن، حارس العمارة المصريّ، الذي يَعرف عن سكّان العمارة التي يقيم فيها حازم (والحيّ، وربّما المدينة) أكثر مما يعرفون هم عن بعضهم، ويمثّل (من خلال مئات الآلاف من نظرائه العمّال) مجتمعًا عميقًا مسكوتًا عنه في الأردن، غير مرئيّ، مثله مثل مجتمعات عاملات المنازل المهاجرات، وعمّال المناطق الصناعيّة المُهاجرين، ما يعطي رواية الهامش نفاذًا إلى المزيد من الهوامش المُركّبة.

"كيف لكلّ هذا الجحيم أن ينطلق من ’الفردوس‘؟"(3)

وإن كانت الرواية -في جزءٍ وازنٍ منها- تبحث في عمّان وتحوّلاتها ضمن سياق الغزو الأميركيّ للعراق عام 2003 وموجة الهجرة/اللّجوء التي ولّدتها، فهي في جزءٍ وازنٍ آخر تبحث التّداعيات والمآلات العراقيّة لذلك الغزو، وما أطلقه من جحيمٍ طائفيّ عنفيّ مركّب، يتشخّص في التّناقضات والمآسي التي تقع فيها الشخصيّة الرئيسيّة الثانية في الرواية: لهيب، الموظّفة البعثيّة في وزارة خارجيّة نظام صدّام حسين، والتي تتحوّل بعد الغزو إلى مترجمة لدى جيش الاحتلال، الذي يلفظها بدوره لتصبح تحت رحمة القوى المناوءة للأمريكان، والتي تريد أن تقتصّ (بطريقةٍ أكثر بشاعة من الجريمة نفسها) من عملاء الاحتلال.

اقرأ/ي أيضًا: "إن كان بدك تعشق".. ثقافة الأطراف على طاولة فواز طرابلسي

في لفتة ذكيّة أخرى من الكاتب، نتعرّف على قصّة لهيب خلال ليلةٍ من السُّكْر، ففي خضمّ هذا الواقع الكارثيّ العصيب، ليس سوى الدوّامات والهذيانات وتغييب "الوعي" بقادرٍ على أخذنا إلى أعماق الحقيقة المختبئة تحت طبقاتٍ من القشور والادّعاءات والوجوه المُصطنعة. ومن خلال لهيب، نتعرّف على عالم التناقضات الذي يجد المرء نفسه فيه إذ يصارع -في ظروف استثنائيّة وبالغة الصّعوبة والتّعقيد- من أجل البقاء، ونتعرّف على الجحيم المتصاعد والمتمدّد الذي ابتدأ من ساحة وسط بغداد تحمل اسمًا نقيضًا للوضع بالكامل: الفردوس، لحظة أُسقط تمثال الديكتاتور، وهو مشهدٌ صار لازمةً متكرّرةً وعلامةً مُسجّلةً كالوشم لسقوط عاصمة العراق.

خالد سامح

بشكلٍ ما، لهيب هي صورة حازم في المرآة، ونقيضه. الاثنان هامشيّان، هما نتيجة الأحداث وليسا سببًا فيها، موجودانِ في حالةٍ من التّناقض الموضوعيّ المؤلم بين أفكارهما من جهة، ومتطلّبات الحياة والبقاءِ من جهةٍ ثانية، يمارسان أو يسكتان عمّا يعرفان في قرارة نفسيهما أنها رذائل لا نقاش فيها؛ لكن لهيب كَلَّحَتْ (كما يُقال في العاميّة العمّانيّة)، لم تعد تفرق معها، تعرف ماذا تريد، وكيف تحصل على ما تريد، ولا تتوقّف في سبيل ذلك أمام أيّ أحدٍ أو شيء، وتسعى للتحوّل عن الهامش ولو كلّفها ذلك حياتها؛ أمّا حازم فهو مهجوسٌ دومًا بتناقضاته، بالتّعارض بين أفكاره والواقع، بين بقائه المعيشيّ وانسجامه الذهنيّ. يمثّل حازم ولهيب بهذا جزءًا وازنًا من السّطوة التي تمارسها الوقائع على الأفراد، فيتحوّل بعضٌ منهم إلى الانتهازيّة والفهلوة والشّطارة وانتزاع ما يمكنه انتزاعه، بينما يضيع البعض الآخر في البرزخ بين العالمين، عالم السّطوة القائمة، وعالم الأمل في التّغيير. 

"انتمِ إلى نفسك قبل أيّ قضيّة أخرى، وهذا العالم لن تستطيع تغييره مهما جهدتَ في ذلك."(4)

وفي هذا البرزخ الغريب تظهر شخصيّة ثانويّة ومركزيّة معًا في الرواية: الطبيب النفسيّ الذي يمثّل صوت العصر ومنطقه، فهو (وفي إطار مساعدة حازم على تجاوز توتّره وضياعه) يكرّر أن لا شيء مهمّ سوى الشّخص نفسه، وأن على هذا الشخص ألّا يُلقي بالًا إلى أيّ شيءٍ خارجه على الإطلاق، وأن على هذه الذّات المُطلقة أن تكون بالغة الأنانيّة والفردانيّة في تعاملها مع خارجها، وأن تنجو بنفسها، وكأنّ سبب الألم والضّياع والدّمار والفقر والحروب والكوارث وانحطاط الكرامة تنبثق كلّها من دواخل الأفراد، وعلاجها وتجاوزها -كما تروّج تلك الأيديولوجيا الدعائيّة المسيطرة لما يُسمى بـ"التفكير الإيجابي" و"تطوير الذات" و"تنمية القدرات"- تكمن في تغيير الذّات، لا في تغيير الواقع الموضوعيّ الذي يُحدّد مصائر الذوات.

وكم يبدو مناسبًا أن الطبيب النفسيّ، هذا المُعالج المقلوب، هو الذي يأتي بكلمة "الهامش" التي تصير عنوانًا للرواية، ومساحةً مستمرّةً لتأمّلات حازم، ويعرّفها الطبيب هكذا: "كلّ ما يقع خارج ذاتك فهو هامشيّ."(5)، في خضمّ دعوته إلى اليأس من إمكانيّة التّغيير، ليصير الطّبيب أيضًا جزءًا من العلّة، أو جزءًا من عمليّة التّضليل التي تُشوِّش الأسباب الموضوعيّة الواضحة، وتلوم الذّات التي سيقع كلّ الحقّ عليها.

نتعرّف مع خالد سامح على قصّة لهيب خلال ليلةٍ من السُّكْر، ففي خضمّ هذا الواقع الكارثيّ العصيب، ليس سوى الدوّامات والهذيانات وتغييب "الوعي" بقادرٍ على أخذنا إلى أعماق الحقيقة المختبئة تحت طبقاتٍ من القشور والادّعاءات والوجوه المُصطنعة

على الصعيد العمليّ الفعليّ داخل صيرورات الرواية، نرى أن لهيب هي التي تأخذ بهذه النصيحة، لا حازم، رغم أنها لم تراجع الطبيب ولم تطلب مشورته ولم تسمع منه، بل سمعت "صوت العصر" الذي تجسّد في انتهاكِ بلادها وانتهاكِ جسدها، وهو ما يعزز هذه العلاقة التماثليّة التضاديّة بين البطلين اللّابطلين، ويجعلهما نموذجان سيزيفيّان لحال الأفراد الذين تعصف بهم أحداثٌ كبيرة دون أن يعوا مكانهم منها ومكانها منهم.

"إنّ التنازل الأوّل هو كالخطيئة الأولى، إذا ما اقترفناها بملئ وعينا فإنّها تَجُبّ ما بعدها من خطايا."(6)

يُحسب للرواية أسلوبها الأدبيّ السّلس، وواضح أن كاتبها قد استفاد من اشتغالاته القصصيّة الأربعة التي سبقتها ليشحن كتابته الروائيّة بالكثافة والرمزيّة. كما يُحسب للرواية توظيفها الموفّق لعدّة عاميّات عربيّة، محليّة من بيئات مختلفة، وأخرى من العراق ومصر، ما يعطي مفهوم "تعدّد الأصوات" بُعدًا جديدًا. وعلى خلاف الكثير من الرّوايات التي تدور أحداثها في عمّان أو الأردن، وتستحي من توظيف أسماء الأماكن والأحياء والمطاعم، أو يكون توظيفها لها مُدّعيًا أو مُقحَمًا أو محدودًا، يوظّف مؤلّف الهامش بشكل جيّد أسماء أماكن وأحياء ومواقع مُتعدّدة في عمّان والزّرقاء، يساعده في ذلك أنّه يستخدم هذه الأماكن لا لذاتها، بل في سياق بحث التّفاعلات الإجتماعيّة والمآلات السياسيّة، فهو يحشد العمق الرمزيّ-الاجتماعيّ-الاقتصاديّ للمكان، ويُحضّر بواسطته الجوّ العامّ والتّفاصيل المُضخّمة لارتدادات أحداث الرّواية وأفعال وتصرّفات شخوصها.

إن شاب الرّواية بعض مناطق الضّعف أو النّقص، مثل المرور السطحيّ على ما يسمّى بـ"الإرهاب"، وتمثّلاته، ورسم شخوصه (وهو ما كان –برأيي- يستحقّ معالجةً أعمق)، أو اختزال القوى المسلّحة التي ظهرت في العراق بعد الغزو الأميركيّ بشكلٍ واحدٍ أو شكلين (تنظيم القاعدة، والصّحوات)، مع أن المشهد العراقيّ معقّد أكثر بكثير في هذا الجانب، إلا أن هذه الهفوات ليست سوى مسائل يمكن المرور عنها في عملٍ روائيّ أردنيّ جادّ، لا يهرب من الاشتباك مع المواضيع المُعاصرة باتّجاه التّاريخ، ولا يرسم شخصيّات مُسطّحة أحاديّة الأبعاد في خضمّ واقعٍ مُركّب، ولا يتمسّك بخيوط الوجدانيّات والرومانسيّات الواهية وسط الكوارث والعواصف والنّكبات، ولا يتعامل مع الكتابة الروائيّة باعتبارها تصفيطًا للكلام دون انتباهٍ لإمكانيّات اللّغة الفنيّة والتركيبيّة، والتقنيّات السرديّة المتعدّدة، التي تُرفّع جنس الرّواية من مصافّ الاشتغال البحثيّ والعلائقيّ، إلى أوّل درجات الأدب.

 

اقرأ/ي أيضًا:

رواية "طير الليل" لعمارة لخوص.. العنف وأصله في الجزائر

6 تجارب روائية.. الهامش والتاريخ والفرد وهمومه الصغيرة

 

 


هوامش

  1. خالد سامح، الهامش، منشورات ضفاف ومنشورات الاختلاف، 2020.

  2.  نفسه، ص 31.

  3.  نفسه، ص 14.

  4.  نفسه، ص 18.

  5.  نفسه، ص 17.

  6.  نفسه، ص 85.