20-يناير-2025
مخيمات النازحين في إدلب

(Getty) جيل كامل من الأطفال في المخيمات يواجه خطر الضياع

بينما تضج العاصمة دمشق بأصوات الاحتفالات والتغطيات الإعلامية التي تروج لـ"انتصارات" الإدارة السورية الجديدة، تقف المخيمات السورية شاهدة على مأساة مستمرة منذ 13 عامًا. هناك، في تلك البقاع المنسية من وطنٍ مزقته الحرب، يعيش النازحون في ظروف مأساوية تحت وطأة الفقر والإهمال والصقيع.

الاحتفالات قد تكون رمزية، لكنها بلا معنى إذا استمرت دموع الأطفال تُسكب في خيام بالية، بينما تستثمر الإدارة السورية الجديد رمزية النصر لإثبات وجودها السياسي، متجاهلةً أن النجاح الحقيقي يُقاس بقدرتها على معالجة أزمات الناس وإعادة بناء وطن مزقته الحرب.

في المخيمات، الحياة ليست سوى انتظار طويل، طوابير للحصول على الطعام، ومحاولات يائسة للتدفئة في خيام لا تقي من البرد، وأطفال يلهون بين برك الوحل دون أحذية أو معاطف، لكل خيمة قصة، ولكل نازح حكاية فقدٍ تُروى بعيونٍ مثقلة بالحزن.

هؤلاء الناس لم يغادروا قراهم ومدنهم بحثًا عن حياة أفضل، بل هربًا من القصف والجوع والخوف. لكن المأساة لم تنتهِ عند حدود النزوح، إذ يعيشون اليوم بلا كهرباء، وبإمدادات مياه محدودة، ورعاية طبية تكاد تكون معدومة، ويتفاقم الوضع مع بداية كل شتاء، عندما يتحول المطر إلى كابوس يهدد خيامهم بالغرق، وتنخفض درجات الحرارة إلى ما دون الصفر، بينما يكتفون بمدافئ بدائية تعمل على البلاستيك أو الأخشاب إن وجدت.

في المخيمات، الحياة ليست سوى انتظار طويل، طوابير للحصول على الطعام، ومحاولات يائسة للتدفئة في خيام لا تقي من البرد

جيل كامل من الأطفال في المخيمات يواجه خطر الضياع، محرومين من التعليم والرعاية الصحية. هؤلاء الأطفال يكبرون في بيئة تفتقر إلى أبسط مقومات الأمان والحياة الكريمة. وعلى الرغم من التغيير السياسي وسقوط نظام الأسد، يبدو أن المخيمات لا تزال خارج أولويات الإدارة الجديدة، هناك إهمال واضح يتجلى في غياب أي خطة جادة لإيجاد حلول جذرية، بينما يستمر النازحون في دفع ثمن سياسات ماضية وحاضرة.

الكثير من النازحين لا يملكون خيار العودة إلى منازلهم لأنها دمرت بالكامل جراء القصف، أو تعرضت للتخريب المتعمد من قبل عناصر النظام السابق الذين نهبوا كل ما يمكن بيعه حتى حديد الأسقف، عدا عن الانتشار الكثيف للألغام بقرى النازحين، ما يجعل العودة محفوفة بالمخاطر، إذ إن إزالة هذه الألغام تحتاج إلى سنوات وميزانيات ضخمة لا يبدو أنها متوفرة حاليًا.

وحتى لو فكر النازحون بالعودة، فإن غياب الماء والكهرباء والمدارس يجعل حياتهم في المناطق الأصلية شبه مستحيلة، عدا عن فقدان سبل العيش، إذ إن الكثير من النازحين كانوا يعملون في الزراعة أو الحرف البسيطة، لكن الدمار طال الأراضي الزراعية والبنى الاقتصادية.

في مخيمات إدلب قصص لم تُروَ، كخيمة على الحدود الشمالية، تضم أرملة فقدت زوجها في القصف، هربت من الموت لتجد الموت ينتظرها في ذاك المخيم البائس، أولادها ينامون دون عشاء في ليالي الشتاء الباردة، وتحلم فقط بخيمة أفضل أو مدفأة لا تنطفئ، بعد أن ذهبت إلى منزلها، ووجدته بلا أبواب ولا سقف أو نوافذ، الجدران مدمرة والأرض مليئة بالركام، وشعرت وكأنها غريبة في مكان كان يومًا ما كل حياتها.

وفي خيمة أخرى، يجلس مزارع كان يملك حقلًا في ريف إدلب، تحولت حياته ما بين الزرع والمحاصيل والماء، لغرق بين الطين والغبار والفقر، لا أمل له سوى العودة يومًا ما ليرى أرضه خضراء من جديد، بعد إجرام النظام السابق الذي اقتلع أشجارها وزرع الألغام فيها.

إعادة إعمار سوريا ليست مجرد مسألة إسمنت وحديد وحسب، بل هي إعادة بناء النسيج الاجتماعي والإنساني، ويتطلب ذلك مواجهة الأسئلة الصعبة، كيف يمكن لبلد أن ينهض دون الاهتمام بفئاته الأكثر هشاشة، وكيف يمكن أن يتصالح الشعب مع ذاته ومع حكومته إذا استمر الإهمال لهذه الفئة التي دفعت أثمانًا باهظة طوال سنوات الحرب.

فاللاجئون والنازحون جزء لا يتجزأ من مستقبل سوريا، وتجاهل معاناة النازحين يعني استدامة الجراح المجتمعية وتعميقها، فأكثر من 6.5 مليون سوري يعيشون نازحين داخل وطنهم وفقًا لإحصاءات الأمم المتحدة، بينما ينتظر الملايين منهم فرصة للعودة إلى منازلهم، هؤلاء الناس ليسوا فقط ضحايا الحرب، بل هم أيضًا أمل سوريا الوحيد في السلام.

ورغم الجهود الإنسانية المبذولة من قبل بعض الدول والمنظمات الانسانية، فإن الاستجابة لا تزال غير كافية، العقوبات الاقتصادية، وعدم الاستقرار السياسي، وصراعات المصالح الدولية تعرقل توفير التمويل اللازم لحلول دائمة.

لكن هذا لا يعفي الإدارة السورية من مسؤولياتها، فالعمل على استقطاب الدعم الدولي لإعادة الإعمار، وبناء شراكات حقيقية مع الدول المانحة، والعمل الجدي على توفير فرص عمل ومشاريع تنموية لضمان عودة النازحين إلى حياة منتجة، والتوقف عن استخدام قضية النازحين كأداة سياسية، يجب أن يكون أولوية.

لن تكون الحلول سهلة، لكنها تبدأ بالاعتراف بأن أزمة المخيمات ليست قضية مؤقتة، بل كارثة إنسانية طويلة الأمد تتطلب استجابة شاملة، حيث لا يمكن الحديث عن عودة النازحين دون البدء بخطة واسعة لإعادة بناء المنازل المدمرة والبنى التحتية والمدارس والمراكز الصحية، كما يجب أن تكون إزالة الألغام أولوية قصوى لضمان سلامة النازحين.

فما يحدث في المخيمات السورية اليوم هو اختبار لإنسانيتنا جمعاء، كيف يمكن لعالم يدعي السعي نحو العدالة أن يغض الطرف عن معاناة الملايين، الاحتفالات في دمشق لن تغير حقيقة أن النصر الحقيقي لا يتحقق في الميادين السياسية، بل في تخفيف معاناة البشر وإعادتهم إلى ديارهم بكرامة.