07-يناير-2022

عمل فني للشاعر مبين الخشاني

مخطوفٌ من يدِ الراحة (دار الرافدين 2021) هو عنوان المجموعة الشعرية الفائزة بجائزة الرافدين للكتاب الأول، دورة الشاعر فوزي كريم، التي فاز بها الشاعر العراقي مبين الخشاني، وفي عنوان المجموعة ما يلفت الانتباه، وهذا بالضبط ما سيدركه القارئ عند قراءته المجموعة حيث نصوصها تنبئ عن شاعرٍ مسكون بالقلق، وتطارده مناجل الاسئلة، وذوات تحومُ حوله، تحاول خطفَ ذاته بشكلٍ مرعب، هذا فضلًا عن قطار العمر الذي يمرق أمامه، ويدفعه للتمرد على كل ما يقولبهُ أو يجعله نمطًا رتيبًا ومكررًا.

تنبئ نصوص مبين الخشاني عن شاعرٍ مسكون بالقلق، وتطارده مناجل الاسئلة، وذوات تحومُ حوله، تحاول خطفَ ذاته بشكلٍ مرعب

يقول الخشاني: في مفتتح ديوانه "أدخلُ العشرين/ كمنْ يخرج من الجنَّة/ لأنامَ ملأ ذنوبي/ أخطائي... حاشيتي... ورفاقي/ ملكًا أدخل العشرين/ عرق التَّاج يسقي زهرة نزقي/ وتتحلق حولي هواجس الإجرام/ مثل أيادٍ حبيبة/ ادخل العشرين أعزل/ ويقيني أنَّ الصباح بهجةٌ مجروحةٌ." (ص9 - 10).

اقرأ/ي أيضًا: عن مبين الخشاني.. أن تكون شاعرًا ومنصتك ساحة الاحتجاج

نقرأ قصيدة اخرى في السياق ذاته: "وصارت لحظاتي مراجلَ/ تتبخر منها السعادات/ ويترسب في أذيالها الألم/ يا خيبة السكين في اللحم الميت" (ص 12)، وفِي قصيدة أخرى يقول في وصف ما هو عليه ،وأعني هذه الخيبة التي تسكن أعماقه والتي نجدها ماثلة أمامنا في كل نصوص المجوعة الخيبة التي صارت عنده اعتيادًا وطقسًا من طقوس حياته: "لا أعي خطورةَ أن أكون في العشرين من عمري/ رهينُ أربعة جدرانٍ تتوسّعُ/ بينما تضيق روحي وتنحسرُ/ والقوقعة التي أصنعها في نومي/ تثيرُ في أمّي خوفَ أن أستحيل/ جدارًا خامسًا/ يُهلك أساس بيتنا الهش" (ص 22).

هكذا يرى الشاعر حياته المسكونة بالقلق حتى في اوقاتها السعيدة والخطيرة في الوقت ذاته والتي تفتح له باب الاسئلة الذي لا يوصد: نقرا في قصيدة "يموت": "انسلَّ يحيى ابنُ سؤال من شجرة/ ونما كثمرةِ استفهام طازجةٍ/ راح يبذر حيرته في القرى/ ويحصد منافٍ/ يطوي لياليه بالشكوك/ يسائل سماواتٍ... يختبر مفازاتٍ.../ وينام كجوهرةٍ فوق البركان".

وفِي ختام القصيدة نقرأ: "كان يحيا/ كمن يفرك الصدأ عن النَّبل/ ويجعل من سيرته وصايا/ لكنه في كل نهاية يموت". (ص 23)، وفي قصيدة "صلاة بديلة"، يطلق الخشاني حزمة أسئلة من خلال صلاته على الله دون أن يجرح قدسيته، أسئلته تحتضن بدورها أسئلة أخرى لا تجد محطة تستقر فيها؛ ما دامت تملك أسبابها، ووفق استراتيجية شعرية تعتمد على التصور والتخيل وبث الأحزان وإطلاق صراخات تحذيرية إلى الوجود برمته، يقول الخشاني: "أبانا الذي في السماء/ هل تهتمُّ؟/ إلى ماذا بشير ضياعك في الضَّباب/ ومكوثك في مكان ذكرى مستحيلةٍ/ بينما أفق النهار ينزف... أبانا الذي في السماء/ لا أطلبك للعراك/ لكن الحياد قطع السبيل/ وصمتك في البعيد يشبه الأعداء" (ص 78).

وفي قصيدته التي حملت عنوان "الثأر" ترغب ذات الشاعر في تحدي الموت إلى ما وراءه، وتفتح بابًا لمشاعر جديدة وغير مألوفة أو مكررة، فالخشاني في هذا النص يفتح ساحة صراع مع الموت على ساحة الشِعر، متحديًا حياته الفانية بتصفية جميع حسابته قبل أن يفرض سلطته عليه في نهاية المطاف. كما يوظف في ذات النص ميثولوجيا بروميثيوس الذي قام بسرقة النار من جبل الأوليمب وإعطاء قبس منها للبشر. تقول القصيدة: "لن تفني يا حياتي/ حتى أردَ أيامي من أعقابها/ وأعيش مرات عديدةً/ بيني وبينك دمٌ/ وإخوة ضائعون/ في أسمائك الكثيرة/ وعليَّ لكي أنامَ أن أسرق النَّار منكِ/ وأقبل هبة الرَّماد".

وهنا نستطيع أن نلمس أقصى درجات القلق والرغبة في تجاوز الموت وفتح باب المغامرة والتجريب وخلق مشاعر جديدة غير مألوفة توارب توقع القارئ، وهنا ربما تكمن قوة الشعر إذ يقول جايمس فنتن في كتابه "قوة الشعر": "يمكننا القول إن الشيء الذي نتوقعه لن يحدث، وإذا كنا نستطيع توقعه، فذلك ليس شعرًا".

يقول جايمس فنتن في كتابه "قوة الشعر": "يمكننا القول إن الشيء الذي نتوقعه لن يحدث، وإذا كنا نستطيع توقعه، فذلك ليس شعرًا"

وفي آخر قصائد الكتاب والتي كتبت بوحي من الاحتجاج التشريني الذي شهده العراق في تشرين الأول/ أكتوبر 2019، جاء عنوان القصيدة تحت عنوان "مأساة العادي" ونلاحظ في هذا النص وضع الحد الفاصل بين الواقع والشعر نجد قصيدة تقوم على المساءلة، وتحاول قدر الإمكان قرع أجراس الضمير في رؤوس القتلة، صحيح إنها تستمد وجودها من الواقع، لكنها تعيد انتاجه شعريًا فهي لم تنحاز لضغط الواقع التعبوي وصخبه الجماهيري، حتى تكون قصيدة يومية تفقد قوتها وديمومتها بزوال مناسبتها، يقول ماناش باتاشارجي وهو شاعر وكاتب ومترجم وباحث في العلوم السياسيّة: "إن الشعر هو الحقيقة الأخرى، تلك التي تفضح بروباغاندا السلطة. فقوة الشعر هي قوة التفنيد والرفض، قوة أن تقول "لا" في وجه السلطة. وهكذا يكون الشعر أقرب لروح للمضطهَد والمظلوم رجلًا كان أو امرأة".

اقرأ/ي أيضًا: أرشيفنا الثقافي: جماعة كركوك

وبالعودة الى نص مبين الأخير فأننا نجد فيه ايضًا ذلك التلبس بالموت والقلق والخوف هذا الثلاثي الذي هيمن على كل أجواء النصوص، لشاعر روحه لا تعرف الاستقرار تُطارد حتى في أحلامها قلق يأكل الروح.. بوصفه ضحية وفريسة لوجود لم يختر شيئًا منه ويذيقه في الوقت ذاته شتّى أطياف العذاب والوجع.

"أيَّ يومٍ من التَّقويم هذا؟ / إنه اليوم الذي سأموت فيه/ إنه اليوم الذي يتكرّر كلُّ هذا الألم؟/ بم قايضني العالم لكي أحملَ كلَّ هذا الألم؟/ الحزن اسمي الثَّاني وحصتي من كنز الشعور/ مبذولٌ لأسمن كتب التاريخ بالوجع/ وأقبر نفسي كي تتوالد السير/ قيامي من الفراش قيامة أسير إلى نهايتي وظلي يسبقني.. وفي ختام القصيدة يقول: "أنا مغدورٌ/ واسم قاتلي ينمو في لافتات الشَّوارع" (ص 89).

 

اقرأ/ي أيضًا:

عن سركون بولص والوحشة الشعريّة العربيّة

الخاكيون الجدد.. تحرّر الشِّعر العراقي من سجون الأيديولوجية