26-نوفمبر-2017

نداء بدوان/ فلسطين

إنّه زمن النثر ولهذا يستحق منا التمجيد، إذا استطاع التعبير عن تعقيد زمننا باقتدار لا يستطيعه الشعر بحكم طبيعته المجازية. كما استطاع أن يكسر سلطة الشعر الدكتاتورية، وأن يمنح الكتابة حريتها المطلقة التي طالما حلمت بها، فمن التمرد على الأوزان، وصولًا إلى التمرد على عقلية الأوزان، باتت قصيدة النثر والرواية الجديدة ممثلتان لهذا العصر الجديد.

يكتب أنسي الحاج في مقدمة "لن" الشهيرة: "النثر سرد، والشعر توتر، والقصيدة اقتصاد في جميع وسائل التعبير، النثر يتوجه إلى شيء، يخاطب وكل سلاح خطابي قابل له. والنثر يقيم علاقته بالآخر على جسور من المباشرة، والتوسع، والاستطراد، والشرح، والدوران، والاجتهاد الواعي- بمعناه العريض- ويلجأ إلى كل وسيلة في الكتابة للإقناع".

هنا مختارات نثرية متنوعة من روايات، وقصص، وسير ذاتية. هي مقتطفات تبحث عن شعرية النثر، عن جماله المشاعي، عن البسيط والعميق في العادي.


اسم من أجل المستقبل

أن تسمي نفسك "حديثًا" هذا يعني أن تسلّم نفسك لفقدان التسمية بسرعة. ما الاسم الذي سيطلق على العصر الحديث في المستقبل؟ ربما من أجل إعاقة الحت الحتمي الذي يمحو كل شيء، قرّرت المجتمعات الأخرى أن تعرف من خلال اسم إله، أو معتقد أو قدر. وتشير أسماء كإسلام، والمسيحية، والمملكة الوسطى.. إلى مبدأ ثابت، أو إلى، على الأقل، أفكار وصور مستقرة. يستقر كل مجتمع على الاسم الذي سيصبح حجر أساسه.


ثالوث الشاعر والنبيّ والملك

العرب القدماء بنوا أسطورتهم على مثّلث الشّاعر- النّبي- الملك. وقد بدأتْ هذه التّرسمية مع امرئ القيس الذي كان شاعرًا وملكًا، ووصلت إلى ذروتها مع المتنبي الذي كان شاعرًا ونبيًا ويسعى إلى الملك. ولا تزال آثار هذه الترسمية محفورةً كالوشم في الشعر العربي إلى يومنا هذا.


مع البابا تحت دوش الاستحمام

 تبدو المشكلة في أن المهنة لم تتوصل إلى التطور بالسرعة نفسها التي تطورت بها أدواتها، وظل الصحفيون يبحثون عن الطريق بالتلمس في متاهة تكنولوجيا منفلتة من عقالها بلا ضابط نحو المستقبل. ولا بد أن الجامعات قد ظنت أن العيوب أكاديمية فأسست مدارس لم تعد تقتصر على الصحافة المكتوبة، وبحق، وإنما تشمل كافة وسائط الاتصال. وفي التعميم، أخذت من الشارع حتى التسمية المتواضعة التي اتخذتها المهنة منذ نشوئها في القرن الخامس عشر، ولم تعد تسمى الآن مدارس صحافة وإنما علوم الاتصال أو الاتصال الاجتماعي. ولابد أن يكون هذا في نظر صحفيي الزمن الغابر التجريبيين أشبه بأن يجد المرء نفسه تحت دوش الاستحمام مع البابا مرتديًا ملابس رائد فضاء.


إسبانيا مشوهة ومبتورة

إنكم تنتظرون كلمتي. فأنتم تعرفونني جيدًا وتعرفون أنني غير قادر على الصمت. لأن الصمت أحيانًا يوازي الكذب. ولأنه يمكن تفسير الصمت على أنه موافقة.

كنتُ قد قلتُ إنني لا أريد التكلم، لأني أعرف نفسي: ولكنني سُحبتُ من لساني وصار من واجبي أن أتكلم. لقد جرى الحديث هنا عن حرب دولية للدفاع عن الحضارة المسيحية؛ وأنا نفسي فعلتُ ذلك في مناسبات أخرى. ولكن لا، فحربنا الآن هي مجرد حرب همجية. لقد ولدتُ على "هدهدة" حرب أهلية أخرى (الحرب الكارلستية الثانية) وأعرف ما أقول. فالانتصار لا يعني الإقناع، ولا بد من الإقناع قبل كل شيء، ولا يمكن للحقد الذي لا يترك مجالًا للرحمة أن يُقنع أحدًا؛ الحقد الناقم على الفكر، وهو فكر ناقد، ومفاضل، ومفتش، ولكنه ليس محكمة تفتيش.

(...) لقد سمعت للتو صرخة تهين حرمة الموتى ولا معنى لها، تقول: "يحيا الموت!"، وأشعر بأن هذه الصرخة هي معادل للقول: "فلتمت الحياة!". وأنا الذي أمضيت حياتي في الجمع بين متناقضات ظاهرية أثارت حفيظة من لم يفهموها، يتوجب عليّ أن أقول لكم، بصفتي مرجعًا في هذا الشأن، إن التناقض الظاهري السخيف في هذه العبارة يبدو لي مثيرًا للاشمئزاز. ذلك أنها أُطلقت تكريمًا للمتحدث الأخير، وأنا أفهم من ذلك أنها موجهة إليه، مع أن ذلك قد حدث بطريقة ملتوية ومفرطة في الشطط، إنها موجهة إليه كشاهد على أنه هو نفسه رمز للموت. وهناك شيء آخر! فالجنرال مييان أستراي شخص مشوه، ولا حاجة إلى قول ذلك بصوت خافت، إنه مشوه حرب. وقد كان ثربانتس أيضًا مشوه حرب. ولكن الأطراف لا تنفع مقياسًا. فهناك اليوم مشوهون كثيرون في إسبانيا. وسيكون هناك المزيد منهم عما قريب، ما لم يدركنا الله بعونه. يؤلمني أن أفكر في أنه يمكن للجنرال مييان أستراي أن يملي "القواعد السيكولوجية للجماهير". لأنه مشوه يفتقر إلى عظمة ثربانتس الروحية، ثربانتس الذي كان رجلًا فحلًا وكامل الرجولة بالرغم من عاهته. إن مشوهًا، مثلما قلتُ، يفتقر إلى هذا التفوق الروحي، يشعر عادة بالمواساة وهو يرى تزايد أعداد المشوهين من حوله.

ليس الجنرال مييان أستراي واحدًا من العقول المتميزة، حتى وإن كان غير ذي شعبية، أو ربما كان لهذا السبب نفسه غير ذي شعبية. الجنرال مييان أستراي يريد أن يخلق إسبانيا جديدة ــ وهي عملية خلق سلبية بكل تأكيد ــ على صورته نفسها. ولهذا السبب يرغب في رؤية إسبانيا مشوهة ومبتورة، مثلما بيّن لنا دون قصد منه.

  • أونامونو
  • خطاب مرتجل في احتفال في 12 تشرين الأول/أكتوبر 1936

ثرثرة يمليها الموت

أكتب من دون تفكير في إضافات. لديَّ مسارب عليها أن تمتلئ حتى الطوفان. لدي الثرثرة التي يمليها الموت بسحره. لدي ثرثرة الحياة تفصيلًا بعد تفصيل مفتوح على شبح الشكل. لذلك أستمر لا أكثر.

لا أفكر في إضافات. لا أستطيع تصور "شكل" للإضافة في إنجازي مشروعًا وإقبالي على مشروع تالٍ. كل ما في الأمر أن المسألة دائرية، بل ذبذبات من "مركز" لغوي في اتجاه المحيط.


اكتشاف البديهيات

في الأوقات التي يهتز فيها حبل الحياة، يكتشف المرء، أو بالأحرى، يعيد اكتشاف البديهيات، تبدو كأنها أمور خارقة. في الأوقات الصعبة. في هذا الحصار الكامل. في اللحظة التي يشتد فيها السباق بين الحياة والموت، تسطع صور قديمة سعيدة مطمورة. تسطع صورة بيت وشرفة وفنجان قهوة ورف من الكتب والأصدقاء يأتون ويذهبون. هناك صباحات صغيرة تعود. صباحات شرب القهوة على الشرفة وسماع أصوات الناس في البناية المجاورة والأطفال في الزقاق. لم تكن لتلك الأشياء قيمة خاصة بحد ذاتها. كانت جزءًا من حياية يومية عادية. الآن آراها وكأنها أمر خارق. غير عادي. وربما مستحيل. فهل حدثت تلك الأشياء؟ هل كانت جميلة وغير قابلة للتكرار كما أراها الآن؟

 

اقرأ/ي أيضًا:

ركن الورّاقين (7): ألف ليلة.. ما وراء الأبدية

"بيت حُدد" لفادي عزام.. رواية السوري المزدوج