31-أكتوبر-2019

أمجد ناصر شابًا في بيروت (فيسبوك)

ألترا صوت - فريق التحرير

نشر أمجد ناصر (1955 - 2019) تسع مجموعات شعرية، آخرها كانت "مملكة آدم" التي صدرت هذه السنة بعد توقّف طويل عن نشر الشعر منذ ديوانه "حياة كسرد متقطع" عام 2004. هناك أعمال أخرى لم تنشر بعد منها قصيدة - ديوان بعنوان "بترا"، وقصائد أخرى جمعها في ديوان بعنوان "هل غادر الشعراء؟" ستصدر عن منشورات المتوسط قريبًا. من أعماله المنشورة اخترنا هذه القصائد.


أيّتها الهوادج

أيّتها الهوادج

أيّتها الهوادج

يا أجراس الصحراء

من هنا مرّ الأردنيون حفاةَ السيوف والأقدام

في أرواحهم يقدح حجر الصوان

وفي لحاهم المُغبرة تعوي الذئاب.

أيّتها الهوادج

أيّتها الهوادج

من هنا مرَّ شعبي

عاريًا وضامرًا يسحب خلفه

نهرًا يابسًا

وصقورًا كهلة.

  • منذ جلعاد مان يصعد الجبل

 

منفى

أرأيتِ؟ نحن لم نتغيّر كثيرًا

وربما لم نتغيّر أبدًا

الألفاظ المشبعةُ

النبرة البدويةُ

العناقُ الطويلُ

السؤالُ عن الأهل والمواشي

الضحكةُ المجلجلةُ

رائحة الحطب القديم

ما تزال تعبق في ثيابنا.

 

أرأيتِ؟

نحن لم نتغيّر كثيرًا

وربما لم نتغيّر أبدًا:

جلسات القرفصاء

حبل الغسيل المحتشد أمام البيوت

الأولاد المعفرون بالتراب

الشاي المنعنع في المساءات

النميمة المنعشة

الرضى بالقليل

الأخذ بالثأر

والدم الذي لا يصير ماءً.

 

كأننا لا نزال في المفرق

أو السلط..

في الكرك أو الرمثا

كأننا ما اجتزنا حدود الشمال

إلى المدن الكبرى والسواحل.

  • رعاة العزلة

 

أسماء مستعارة

الذين يعرفوننا قديمًا لن يعرفونا بعد

مضى وقت الخروج من الحفل ورفع الأقنعة

مضى وقت استعادة الأسماء

فالمياه التي جرفت أكفنا البيض

تجف في ظهور نساءٍ لغيرنا.

  • وصول الغرباء

 

الرائحة تذكّر

الرائحة تذكّر بأعطيات لم يرسلها أحد

بأسرة في غرف الضحى

بثياب مخذولة على المشاجب

بأشعة تنكسر على العضلات

بهباء يتساقط على المعاصم

بأنفاس تجرّب مسالك جديدة إلى مرتفع الهواء

بمياه الأصلاب

مسفوحة على الدانتيل

بالترائب

برواد فضاء تخطفهم سحنة القمر

بالصنوبري، بالليلكي، بالمشرئب

بأمطار على أسطح من طين

بحنطة مركوزة في الخطائر.

  • سرَّ من رآكِ

 

الرابية الأخيرة

على رابية الحسرة

تبرّأت من النجم الذي لمولدي

ومن مهارتي بين الأقران.

وسط العابرين بأكتاف كبيرة

كنتُ ذا القامة المائلة تحت البروق

جنحتُ إلى سفوحٍ تتلقى صامتة عظات الذرى وسمعتُ تحت وقر السماء تفلّق الشيء في عزّ هجرانه

صادفتُ تلالًا تولد من سهو الرواسي وأرواحًا تهيم مختومة بحدوة الهاجرة

مرّرتُ بعوسجٍ يتفشى في الشعاب على غير هدى

فقلت له يا أخي.

  • مرتقى الأنفاس

 

أطراف النهار

لأنني ما نجوتُ من أملٍ حتى وقعتُ في غيره، وما بشّ لي قناع إلا واتخذته نجيًّا، فقد متّ لا كما يموت الماشي مرحًا بين أقرانه اليقظين، ولكن كمت مات كثيرًا، فما جاء الموت ضاحكًا تحت قنزعته الخضراء وأسبل عينيّ على شعاع الوداع الطفيف لم أصدّقه فقد كنت أظنّ الموت جلجلة، "صرخةً عظيمةً تودع كل ما استسلمنا إليه فاغتنى وهجرنا"، لا مجرد غفوة في سرير قاحل،

سرير وحيد

في عراء البياض.

 

هناك من يموت يأسًا وأنا متُّ لأنّ الأمل ظل يحجل حولي

فالأمل، صياد النفوس الضعيفة،

يأخذكَ إلى أصل الماء ويعيدك ظمآن

يلعب بكَ لعبة البيضة والحجر.

 

لم أكن أعرف

أن الأمل

أزهق أرواحًا

بهذه الكثرة!

  • كلما رأى علامة

 

نجوم لندن

نَفَسًا وراء نفَسٍ تدفعني الأيامُ قُدُماً لكنَّ عينيَّ ظلتا ورائي تبحثان عن علامةٍ تراءتْ وأنا مستلقٍ ذاتَ ليلةٍ على سطح بيتِنا في "المفرق" أعدُّ النجوم وأخطئُ ثم أعدُها غيرَ مبالٍ بالثآليل التي تطلعُ في يدي وتنطفئ.

العلامةُ، التي تطاردُها عيناي مذاك تدلُ على ساقيةٍ تؤدي إلى نبعٍ ونبعٍ يقودُ إلى سفحٍ حيثُ غصنٌ وأفعى، تحتَ الغصنِ مفتاحٌ، المفتاحُ للغرفة التي نُهيتُ عن فتحها، الغُرفةُ مظلمةٌ، في الغرفة المظلمِة صندوقٌ به صدفةٌ في الصّدفة ورقةٌ مكتوبٌ عليها: لا تلتمسني في المِثْلِ أو الشبه فكلُّ من هو مثلي ليس أَنا وكلُّ من يُشْبِهُني هو غيري، لستُ بعيدةً ولا قريبةً، علامتي أقربُ إليكَ من حبل الوريد.

*

 

رأيتُ يومًا هذه الرؤيا ونسيتُ العلامةَ أو لعلني سمعتُ هذه الحكايةَ من عابرٍ يرمي إبرة من ثُقب أخرى باتَ ليلةً في بيت أهلي وراح في سبيله.

عبثًا أضعُ رأسي على المخدّة كلَّ ليلةٍ منظفًا عينيَّ من نوافلِ النَّهار وقلبي من أشناتِ الخفقانِ الكاذبِ مهيئًا كلَّ ما يلزمُ لاستدراج العلامة العنيدة.

*

 

في زمنٍ آخرَ، أو في حياة أخرى، كمغربيٍّ على الأغلبِ، سمعتُ في مقهى شعبيٍ بفاس القديمة رجلًا يقول لمجُالِسِه المهموم:

لا تبحثْ عن العلامةِ

لا تعترضْ طريقَها

دعكَ من الشقوقِ والخرائبِ

لا تتَّبع أنجماً ضللتْ قبلَك رعاةً وعاشقين

فالعلامةُ تأتيكَ من حيثُ لا تحتسب

أو يخطرُ لك على بال.

*

 

في لندن التي أقيمُ فيها الآن بقناعِ شخصٍ وهمي فارًّا من نبوءة أمي التي يرنُّ فيها اسمي الأولُ كذكرى مفزعةٍ "يا يحيى لن تعرفَ نَفْسُكَ الراحةَ" من الصعب، على كل حال، أن يستلقي المرءُ على سطحِ بيتهِ القرميديّ المائل ويعدُ نجومًا هجرتْ مواقعَها.

  • حياة كسردٍ متقطِّع

 

ألا يموت الموت؟

كم يدًا للموت؟

كم ذراعًا؟

كم قدمًا؟

كم قرن استشعار

حتى يستطيع التنقُّلَ

كالبرق،

بين وجوهٍ لا أسماءَ لها

وأسماء لا وجوه لها؟

على أيِّ توقيتٍ يشتغلُ؟

هل يملكُ ساعةَ منبِّه؟

 ألا يصابُ بالغثيان

 عندما يتنشقُ هواءَ الخردل أو السارين؟

  • مملكة آدم

 

اقرأ/ي أيضًا:

دفتر لأنفاس الهايكو

قصيدتان إلى طفل في الخامسة