08-نوفمبر-2017

الفنان محمود إبراهيم

ليس سهلًا أن تختار بين ليلة وضحاها ترك مدينتك والرحيل إلى منطقة أخرى لتكون موطنك الجديد. هذا ما فعله الفنان التشكيلي المصري محمود إبراهيم عندما قرّر مغادرة المدينة في عام 1988 والاستقرار بالريف المصري بمحافظة الفيوم، وبالتحديد في قرية صغيرة تطل على بحيرة قارون وتسمى قرية تونس، ويمكن التماس تأثير البيئة المحيطة على رسومات محمود إبراهيم التي تتداخل الحيوانات والمنازل والوجوه الريفية في عدد كبير منها.

كانت الأسر المصرية فيما مضى تهتم بمواهب الأبناء على اختلافها من غناء أو شعر أو رسم

محمود إبراهيم فنان تشكيلي مصري من مواليد عام 1954بمدينة طنطا بمحافظة الغربية، تخرج من كلية الفنون الجميلة، قسم التصوير في عام 1969، ثم التحق بالتجنيد الإجباري حتى عام 1974 بعد انتهاء الحرب بين مصر وإسرائيل، وقام بتدريس الفن بجامعة الجزائر من عام 1976 حتى 1978، ثم انتقل إلى ألمانيا الغربية وفرنسا في أوائل الثمانينيات لدراسة الإخراج والخدع السينمائية، وقدّم أكثر من 65 فيلمًا تسجيليًا، أغلبها يتناول الحركة التشكيلية في القرن العشرين تحت عنوان "فنانون من مصر"، وتناولت تلك السلسلة عدة فنانين أهمهم النحات المصري محمود مختار، والفنان عبد الهادي الجزار، كما شارك محمود إبراهيم بأعماله في عدد من المعارض الفنية بفرنسا وإسبانيا والجزائر، وفي أغلب المعارض المحلية المصرية، وفاز بإحدى وعشرين جائزة محلية ودولية في مجال الإخراج وتصميم العرائس.

حديث حول الفن التشكيلي

يُذكر أن الأسر المصرية فيما مضى كانت تهتم بمواهب الأبناء على اختلافها من غناء أو شعر أو رسم أو رقص أو غيره، وتبادر باستعراضها أمام الضيوف الزائرين، وبتدهور الظرف الاقتصادي والاجتماعي عبر العصور أصبحت الفنون من الرفاهيات، ومواهب الأبناء لا تجد من يهتم بها إلا القلائل من سعداء الحظ.

اقرأ/ي أيضًا: مروان.. التجريد الأكثر واقعية

يذكر محمود إبراهيم لـ"ألترا صوت" أنه في خمسينيات القرن الماضي شارك في مسابقة رسم مقترنة بمناسبة عيد الأم، عندما كان بالمرحلة الابتدائية، وصنع لوحة كبيرة فازت بجائزة مقدارها خمسة جنيهات، وهو مبلغ كبير في وقتها حيث كان كيلو اللحم يقدر بأحد عشر قرشًا فقط، وفي المرحلة الإعدادية لم يدفع مصاريف الدراسة بسبب تفوقه بالرسم، وقتها تعلم أن للفن مردودًا ماديًا كان أو معنويًا  كالتكريمات والجوائز، أما الآن فأصبح الفن مهملًا، واختفت المتاحف التي كانت موجودة بكل محافظة من محافظات مصر، ولم تعد هناك زيارات مدرسية للمتاحف أو المصانع، وهذا الإهمال يتقاسمه المواطن والدولة.

محمود إبراهيم بمنزله بقرية تونس
محمود إبراهيم في منزله بقرية تونس

يقول محمود إبراهيم إنه صنع فيلمًا تسجيليًا للتعريف بالنحات المصري محمود مختار وتاريخه وأعماله الفنية، وعرضه على المسؤولين كي يُعرض على الزائرين بمتحف محمود مختار دون أن يتلق أي إجابة، محمود مختار هو نحات مصري عُرف بالنابغة وتاريخه لا يلقى الاهتمام المستحق، هذا الفنان الذي نحت التمثال البديع "نهضة مصر" الذي يقول عنه إبراهيم إنه أجمل من تمثال الحرية.

تشترط "كلية الفنون الجميلة" للدراسة فيها مجموعًا مرتفعًا في المرحلة الثانوية واجتياز اختبارات القدرات الفنية، يعترض محمود إبراهيم على هذه الشروط ويقول "إن كلية الفنون الجميلة لم تشترط المجموع فيما قبل، وكان الشرط الوحيد لدراسة الفنون، هو اجتياز امتحان القدرات فقط، أصبحوا لا يعلّمون الطلاب في الفنون الجميلة غاية الرسم، لا أحد يسأل الطلاب لماذا ترسمون؟ يعلمونهم عصر النهضة، وعصر الفن الحديث، والمدارس التجريدية، دون أن يعلموهم سبب ظهور تلك المدارس وغاية الرسامين من رسومهم".

هل الكرسي في اللوحة الفنية يعبّر عن مكان للجلوس؟

كان هناك فنان يُدعى موندريان في أوائل القرن التاسع عشر، عمل معرضًا مكونًا من 30 لوحة كلها مرسومة لشجرة! الرسمة الأولى كانت شجرة كلاسيكية تمامًا كمثيلتها في الطبيعة، ثم بدأ يتخلص تدريجيًا من الأوراق ثم الفروع ثم الساق والجذع.. وهكذا، حتى انتهى برسم مجموعة من المربعات والمستطيلات التي غيرت شكل العمارة بالعالم، فأصبح الفنان هو صاحب الفكرة الأولى هنا وليس مجرد محاكٍ للواقع.

يرى محمود إبراهيم أن منطق حياة المدينة هو منطق استعماري من الدرجة الأولى

يقول محمود إبراهيم "إن الرسم في البدايات لم يكن حالة ترفيهية بل حالة ملحة، فالإنسان بدأ الرسم على الكهوف في مراحله الأولى وكان يحفر الحيوانات على الجدران، ويشعر أنه إذا نجح في رسم الحيوان سينجح في اصطياده، ويضع العلامات على مناطق الضعف في جسم الحيوان، ثم تطورت فنون الرسم تدريجيًا عبر العصور وتغيرت معها وظيفتها وغايتها، فعندما ارسم لوحة بها كرسي، هل الكرسي له وظيفة باللوحة كوظيفته بالواقع؟ بالطبع لا، ولكني استخدمه كلون وخط وكعلاقات تشكيلية بالدرجة الأولى أكثر من حاجتي له ككرسي، هذا لا يمنع أنني لو أردت إبراز المعنى المباشر للكرسي فيمكنني إبرازه.. ما أعنيه أن فكرة الجلوس موجودة قبل الكرسي، ثم الفكرة تجسدت في الموائد الصحراوية ثم الطرز الحديثة ثم رسمت باللوحات ثم صورت بالكاميرات، فيجب عند الرسم أن نعيد رؤيتنا للكرسي كفكرة وليس ككيان موجود لأن بوجود الكاميرات لا حاجة للرسم، فيكون السؤال هل الكرسي في الصورة مكان للجلوس أم قيمة للجلوس؟".

اقرأ/ي أيضًا: خالد البوهالي.. المطبخ هو المرسم

ويضيف محمود إبراهيم أن إحدى لوحاته بها حمار يسوق دراجة، فهل هذا معناه أن الحمار الحيوان الذي استخدمه البشر لخدمته له الحق في القليل من الراحة والاستمتاع كأن يركب دراجة، أم أن المعنى أن هناك بشر يشبهون عقول الحيوانات ويسيرون بمركباتهم فوق الآخرين؟

لماذا نقلت حياتك إلى قرية تونس؟

يُقال إن الوقت هو ما يجعل الإنسان ينجز حضارة ما، فبدون فائض من الوقت، لن يكون هناك قراءة أو معرفة أو علماء يعملون لإنجاز مخططاتهم، ومفكرون يتأملون للخروج بنظريات جديدة، وحياة المدينة لا توفر للإنسان هذا الفائض من الوقت، بل تجعله يدور في دوامة كترس مهترئ لا قيمة له من كثرة الاستخدام حتى يخرب تمامًا، لو أن هناك سيارة تعمل لمدة 24 ساعة، ستتعطل بأي حال، فما بالك بالإنسان الذي يملك المشاعر والأعصاب ويتفاعل مع ما حوله، يرى محمود إبراهيم أن منطق حياة المدينة هو منطق استعماري من الدرجة الأولى، فهناك أشخاص يعملون لثماني عشرة ساعة يوميًا، وآخرون ينتظرون جمع الأرباح والنقود.

من أعمال محمود إبراهيم
من أعمال محمود إبراهيم

يحكي محمود إبراهيم أنه شعر في بداية العالم في هذا المكان الجديد عندما انتقل إليه، "هناك بدايات لكل شيء، وشعرت أن بداية العالم في هذه القرية حيث الحياة البكر التي لم يمسها أحد، حياة يمكن اختصارها في البحيرة والزراعة والجبل والصحراء والطبيعة الخالصة، كما أن طبيعة الناس بهذه القرية وليدة المكان، فتجد المزارعين والصيادين ورعاة المواشي، الطبيعة هنا لها طاقة إيجابية غير محدودة، في هذا المكان لا تشعر بالتعب، يمكنك العمل لمدة 24 ساعة وأنت في حالة راحة، فهناك دومًا متعة خاصة، تلك الحالة التي تشجع على التأمل والكتابة والرسم، عندما أتيت هنا للمرة الأولى جلست في ظل شجرة ثم أبلغت أهل القرية أنني أريد شرائها بأي سعر يريدوه حتى ظنوا فيّ الجنون، في قرية تونس يمكنك التواصل مع الطبيعة بدلًا من حديد العواصم، يمكنك الهروب من المدينة التي لم تترك للإنسان فرصة للتأمل والهدوء والمعرفة".

ما رأيك بالمشاريع الوطنية الأخيرة كالعاصمة الإدارية وقناة السويس الجديدة؟

شهدت مصر خلال السنوات الماضية عددًا من المشاريع القومية مثل قناة السويس الجديدة والعاصمة الإدارية الجديدة، مشاريع مختلف على مدى أهميتها، كلفت الاقتصاد المصري المليارات، وتحمل المواطن البسيط العبء بعد هوجة غلاء الأسعار المستمرة، هذا في الوقت الذي تشهد فيه مصر تجارة شبه علنية للآثار، وبيع القصور التاريخية لرجال الأعمال، أو هدمها من أجل مشاريع تجارية دون موقف رسمي من الدولة التي من واجبها الحفاظ على تلك الأبنية التراثية.

محمود إبراهيم: لدينا كنوز الأرض لكن يُساء استخدامها، كيف لمصر أن تكون دولة فقيرة؟

يعلّق محمود إبراهيم على تلك المشاريع، بأنه "لا مانع من إنشاء مدينة جديدة ولكن المدينة القديمة تهشمت بالفعل، فمن الأولى الاهتمام بها، وبدلًا من تفريعة قناة السويس الجديدة التي تكلفت 64 مليار، كان من الأولى بناء 28 مستشفى حكومي على أعلى مستوى موزعين على عدد محافظات مصر بتكلفة مليار واحد لكل مستشفى، والأطباء الذين لا يجدون عملًا، نجعلهم يعملون بوظائفهم المقررة ونقوم بتدريبهم بداخل المستشفيات، ونقوم بإنشاء وحدات علاجية ومراكز لغسيل الكلى بالقرى والأرياف لعلاج الكلى التى أفسدتها المياه غير النظيفة، نهتم بمشاريع تمنحنا نتائج فورية مثل مشروع تحلية المياه، علينا جعل الأمور في المتناول حتى لا يدفع المواطن فاتورة تلك المشاريع من غلاء صارخ للأسعار، من المهم أن يشعر المواطن بالفارق".

اقرأ/ي أيضًا: بهرم حاجو في البحرين: مكممًا... بلا حوار

يضيف إبراهيم "أنه لا معنى لاقتراض الأموال من الدول والمؤسسات دون خطة ودون رقيب ونحن لدينا كنوز الأرض بمصر ولكن يُساء استخدامها، كيف لمصر أن تكون دولة فقيرة؟ هذا الأمر أشبه بأن يموت رجل متسول ثم يكتشف ورثته أن منزله مليء بالنقود! لم يكن يتوقع أحد بالعالم بعد ثورة 25 يناير أن تؤول الأوضاع لما هي عليه الآن، أن يعيد النظام المصري ترتيب أوراقه ويدفع المواطن الثمن، أصبحت هناك أشكال هزلية من القرارات الرسمية، فما معنى أن تكون رياضة كرة القدم بدون جمهور؟ ملعب كرة القدم يُشبه مسرحًا غير مكتوب، معروف الأبطال وغير معروف الأحداث، ولا يمكن أن يكون هناك عرض بدون جمهور، المواطن صار يشعر بعدم الانتماء، يلقي بالقمامة في الشوارع لإنه لا يشعر بالانتماء لها، فتلك شوارع الدولة التي ترفع الأسعار لا شوارع المواطن، جميع المنازل نظيفة من الداخل وكل الشوارع قذرة".

مواقف فارقة ومؤثرة في حياة محمود إبراهيم

يذكر محمود إبراهيم أن سنوات خدمته بالجيش المصري من سنة 1969 حتى 1974 كانت سنوات فارقة في حياته، فعندما انتهى من دراسته فاز ببعثة علمية لإسبانيا ولكنه كان مطلوبًا إجباريًا للتجنيد فلم يستطع الذهاب إلى المنحة الدراسية وعوّضه الجيش في وقتها بمبلغ مالي يبلغ 100 جنيه، كما أن أول معرض فني صنعه في سنوات التجنيد عام 1972، ويقول إبراهيم "إن تجربة الجيش ليست سهلة على الإطلاق وهي من أهم التجارب الإنسانية، فمنذ اللحظة الأولى تصطدم بعقول تسعى لإنتاج قطيع من البشر الذين يطيعون الأوامر دون فهم ودون اعتراض، يقولون لك اطع الأمر ثم تظلّم، وهم لا يعلمون أننا هُزمنا في 1967 بسبب تلك الأفعال، أن تقول لقائدك تمام يا فندم وأنت غير مستعد، أن تدّعي قدرتك على الدفاع عن نفسك وأنت لا تستطيع، ربما ما كان يميز عبد الناصر قدرته على الاعتراف بالهزيمة وتحمله النتيجة، كالمريض الذي يعترف بالمرض فيبدأ طريق العلاج".

لوحة الحمار لـ محمود إبراهيم
لوحة الحمار في منزل مبدعها محمود إبراهيم

كيف يعيش الفنان التشكيلي دون مصدر رزق؟

يتفق معنا الفنان التشكيلي محمود إبراهيم في أن الفن التشكيلي لا يمكن أن يكون مصدرًا رئيسيًا للدخل إلا في حالات نادرة، ولهذا السبب يلجأ الكثير من الفنانين إلى الطرق التجارية الرخيصة لتسويق أعمالهم مثل رسم البورتريهات الشخصية للزبائن أو بيع لوحاتهم بأسعار بخسة بالمتاجر، ويقول "لو اتخذت الفن من البداية كمصدر للرزق، لن تكون تلك هي طريقتي أبدًا".

محمود إبراهيم: لا يمكن للفن التشكيلي أن يكون مصدرًا رئيسيًا للدخل إلا في حالات نادرة

اقرأ/ي أيضًا: العري في الفن.. هاجس إنساني عابر للتاريخ

يفكر محمود إبراهيم مؤخرًا في إنشاء متحف يضم كل لوحاته الفنية، إلا أن إنشاء متحف يحتاج إلى اختيار مكان مناسب بمبلغ مالي كبير ربما يستنزف كل ما يملك من أجل إنشائه، في ظل أن لا مصدر رزق له، وحتى لوحاته لم يعد يبيع منها شيئًا.

 

اقرأ/ي أيضًا:

كيف انعكس الكساد الكبير على الفن في أمريكا؟

منير غوري.. الجسد بوصفه عملًا فنيًا