22-يوليو-2019

محمد مختار الشنقيطي (Youtube)

محمد مختار الشنقيطي والمنظار المقلوب: قذاة تحت مجهر، وجذعٌ يوارَى بمِغفَر!

 

1. "إذا ساء فعل المرء ساءت ظنونه"!

شنّ محمد مختار الشنقيطي حربًا شعواء على التلفزيون العربي وعلى من شارك في برنامج قراءة ثانية، وعلى كل المؤسسات البحثية المجاورة له، بحجة أنه "يدافع عن الدين".

المصدر 

 

يرفع محمد مختار الشنقيطي "شعار" الدفاع عن الدين، وينقم على "الطاعنين في القرآن"، وعلى من يقرؤون الإسلام "قراءة مسيحية"، كما زعم (مع ما في تناقض تعريفاته مع تعريفات أستاذه المرزوقي لمعنى التمسيح كما أسلفنا في المقالة الثالثة).

يرى محمد مختارالشنقيطي أن "شذرات" من هنا وهناك هي برهان "كافٍ" على مشروع "التمسيح" الذي "يتوهّمه"، أو يحمل نفسه على توهّمه.

إذا ساء فعل المرء ساءت ظنونُه .. وصدّق ما يعتاده من توهّمِ

 

فينقل تلك الشذرات، ولا يناقشها علميًا، فمن ذلك مثلًا قوله في هذه الصورة: 

المصدر 

 

يبدو أن هذا أطول سهمٍ في الكنانة. وهو كلام إنشائي، وربما نسي أستاذ الشيزوفرينيا أن سبب جمع المسلمين على مصحف واحد إنما كان في أصله لحفظ الجماعة من "الفتنة والاختلاف"، كما ورد في الحديث الصحيح في سبب جمع مصحف عثمان: "أن حذيفة بن اليمان قدم على عثمان وكان يغازي أهل الشام في فتح إرمينية وأذربيجان مع أهل العراق، فأفزع حذيفة اختلافهم في القراءة، فقال حذيفة لعثمان يا أمير المؤمنين أدرك هذه الأمة قبل أن يختلفوا في الكتاب اختلاف اليهود والنصارى". (انظر فتح الباري بشرح صحيح البخاري)

لكن فلندع هذا الكلام أعلاه جانبًا، ولنفترض أنه كلام فارغ وأنه افتراء حقيقي لا مستند له ولا حجج. وتعالوا ننظر كيف يتعامل محمد مختار الشنقيطي مع نصوص أستاذه المرزوقي الذي يبجّله ويعظمه وينقل عنه ويحيل عليه. لنرى نموذجًا لافتًا للنظر من تناقضات "أستاذ الأخلاق السياسية".

2. الشنقيطي والمرزوقي، تمسيحٌ هذا أم ماذا؟

إذا كان محمد مختار الشنقيطي ينقم على باحثين أنْ غلبتهم "مسيحيتهم" كما يقول، وكأن كتبهم موجهة إلى عوام الخلق، لا إلى مختصين يفهمون ما يقرؤون، فأسأله في كل النصوص التي ستأتي للمرزوقي الذي يبجّله ويعظمه، وهو مسلم ليس بمسيحي ولا يهودي، أسأله: إذا كان المسيحي تغلبه مسيحيته (ونتغاضى هنا عن التعاطي الطائفي غير العلمي في هذا الوصف)، فما علّة المرزوقي المسلم يا ترى؟

لقد رددتُ على أبو يعرب المرزوقي في كتاب قبل عشر سنين، في 500 صفحة، بعنوان "تهافت أبي يعرب المرزوقي وأدلوجته الاسمية، ودعاواه على ابن تيمية وأئمة الإسلام" ، لا تخلو صفحة منه من رقاعة وفظاعة، بلا مبالغة، ومن فضيحة معرفية وفلسفية وإيمانية، وتناقض واضطراب، إذ لبّ مشروعه الفكري هو نزع قطعيات الدين ونزع قطعيات العقل التي يثبت بها القرآن خارجيًا وداخليًا. يتجلى هذا المشروع في كتابيه اللذين لخص فيهما مشروعه الفكري وهما: "تجليات الفلسفة العربية منطق تاريخها من خلال منطق الكلي" ، و"إصلاح العقل في الفلسفة العربية: من واقعية أرسطو وأفلاطون إلى اسمية ابن تيمية وابن خلدون"، لكن كتبه الأخرى، مع ذلك - وقد قرأت كل كتبه إلى حين ألفت كتابي في الرد عليه - لا تخلو من شرح لبعض القضايا في كتابيه المذكورين. وإليك نماذج قليلة جدًا من كلام المرزوقي (وفي كتابي عنه أضعاف أضعافها)، لتحكم أيها القارئ المنصف بنفسك، وتقارن بنفسك.

اقرأ/ي أيضًا: مصطلح "تمسيح الإسلام" بين الشنقيطي والمرزوقي

النص الأول: التشكيك في القرآن من خارجه: "نقل القرآن من المشافهة إلى الكتابة من الطبيعي أن يحدث فيه تغيير ولا يمكن لأحد أن ينكر هذا، لكنه تغيير غير مقصود"!

كتب المرزوقي مقالة، بعنوان: "يوسف الصديق، هل يفكر؟ أم ينكت بروح الجريد المرحة؟" يردّ بها على رجل ادّعى أن الصحابة "عبثوا" بالقرآن وتلاعبوا به. فبماذا ردّ المرزوقي عليه؟ قال بالحرف: "التغير الذي يحصل خلال الانتقال من الشفوي إلى الكتابي. وحصوله غير القصدي أي الذي لا يهدف للتحريف لا يمكن لأحد أن ينكره، وهو لا يغير من قدسية القرآن، تمامًا كما لا يغير من مسجدية المسجد خطأ المهندس في كتابة آية على جدرانه أو حتى خطؤه الهندسي في بناء قبابه ومئذنته".

فالتغيير في القرآن في مرحلة الانتقال من الشفاهي إلى الكتابي "طبيعي" حتمي لا بد أن يقع فهو من مقتضيات طبائع الأشياء، و"لا يمكن لأحد أن ينكره"، تأمّل هذا التعميم الشجاع، والوثوقية الفاقعة، ولكنه تغيير "غير مقصود"، وليس ناتجًا من تحريف قصدي!

وبهذا يصبح عندنا مذهبان: مذهب غلاة الشيعة في أن القرآن محرف قصدًا، ومذهب صاحب مصطلح تمسيح الإسلام أبي يعرب المرزوقي (الذي لا يشكك في القرآن حاشا لله!)، وهو أن القرآن محرّف ومغيّر بطبيعة الحال، لكن من دون قصد. فهذا هو التشكيك في أصالة القرآن من خارجه. فما موقف أستاذ التناقضات الشنقيطي؟ إذا كانت غلبت على باحثين مسيحيين مسيحيتهم؟ فماذا غلب على المرزوقي "المسلم"، لا بل "المفكر الإسلامي"؟ ماذا غلب عليه هنا؟ جهالته؟ فلسفته "الإسلامية" العظيمة؟ فكره "الإسلامي" الدقيق؟ صفاء نيته؟ نقاء قلبه؟ براءة الأطفال في عينيه؟ ولماذا يسكت الشنقيطي عنه بل يعظّمه ويبجّله؟ وهو يقول أشدّ وأنكى مما يقوله من "تغلبهم مسيحيتهم"؟

النص الثاني: التشكيك في القرآن من داخله: "الشريعة متناقضة، وهذا واضح لكل عاقل"!

وفي حين ينفي الله تعالى عن كلامه خلوّه من الاختلاف والتناقض فيقول: "ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافًا كثيرًا". يأتي المرزوقي على فرسه البلقاء، فيقول بكل ثقة: "إن ما يجده العقل الإنساني من تناقضات في الشريعة (مسألة الحرية والضرورة) وفي الطبيعة (وجود الشر أو ما يبدو منافيًا للحكمة) يجعل مبدأ العدل الاعتزالي سطحيًا، ويوجب أحد أمرين: فإما أن ننفي هذه المعطيات المتناقضة عند العقل الإنساني إذا حكّمناه، أو أن ننفي تحكيم هذا العقل، وأن نعتبر الوجود بمعزل عن مفهوم العدل بالمعنى الاعتزالي؛ لأن التأويل لا يكفي لتجاوز هذه التناقضات التي لا يجحدها عاقل، عند تحكيم العقل في أمرها" (أبو يعرب المرزوقي، تجليات الفلسفة العربية، ص 468، وما بين أقواس هو من كلام المرزوقي).

فالشريعة "متناقضة" لو حكمنا العقل "الإنساني" في القرآن! وهذا التناقض واضح لكل عاقل، بل "لا يجحده عاقل"، وكل المحاولات لرفع هذا التناقض (الذي في رأسه هو) هي محاولات سطحية، لذا؛ فالأفضل أن ننفي تحكيم العقل! هذا ما يقوله صاحب مصطلح تمسيح الإسلام، ويسكت عنه تلميذه الشنقيطي، لأنه يرى القذاة في عين من لا يحبهم (طبعًا لأنه يدافع عن الدين!)، ويحرص على أن يستر الجذع في عين "أستاذه"!

أسائل "أستاذ الشيزوفرينيا الأخلاقية والسياسية": لو كان لديه شيء من دين وإيمان وصدق ونزاهة؛ هل الشريعة متناقضة؟ وما حكم هذا القول؟ أليس تكذيبًا صريحًا للقرآن؟ وهل قال في القرآن الكريم أحد من الذين تتهمهم "ممن غلبت عليهم مسيحيتهم" شيئًا كهذا؟ وما حكم "الإغضاء" عن أقوال بهذه الفظاعة والشناعة، مع تعظيم قائلها، ثم إطلاق اللسان فيما لا يقاس بها في الوقاحة والقبح؟

وحين يقول الله: "ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافًا كثيرًا"، وحين يقول سبحانه: "قرآنًا عربيًا لعلكم تعقلون"، يقول المرزوقي: "لا بل فيه تناقض لا يجحده عاقل لو حكّمنا العقل الإنساني"!  أي إن الشنقيطي لو قال لأستاذه المرزوقي بخشوع وخضوع: يا أستاذنا البروفيسور، إنه لا تناقض في القرآن، لقال له أستاذه المرزوقي بكبرياء: "أنت لست بعاقل"، ولو قال الشنقيطي: يا أستاذنا الذي نجلّه ونقدّره، إن هذا يناقض نص القرآن بنفي التناقض عنه والاختلاف، فسيجيبه المرزوقي: "الإيمان لا يقوم على دليل عقلي، بل هو دوغما وتسليم، مهما كان هناك تناقض". وسيأتي بيان هذا.

النص الثالث: "لا يمكن إثبات الدين بأدلة قاطعة، والدليل العقلي على العقائد أسخف فكرة سمعتها"!

وفي هذا يقول المرزوقي (أستاذ محمد مختار الشنقيطي المحبّب): "لو كان يمكن أن نثبت الدين بالأدلة القاطعة لاستغنينا عن الأنبياء"، ويتابع: "لا وجود لأدلة قاطعة لا في الكلام ولا في الفلسفة ولا في الدين ولا في العلم" (أبو يعرب المرزوقي، حرية الضمير والمعتقد، ص 64).

فلا يمكن في مذهب "أستاذ الشنقيطي" أن تقام أي دلالة عقلية لا على وجود الله، ولا على الدين، ويدخل في ذلك صحة القرآن ذاته، وصحة نقله، فضلًا عن قطعيات القرآن من داخله.

ويقول المرزوقي: "القول بإمكان البرهان العقلي عامة، وعلى العقائد خاصة، أسخف فكرة سمعتها" (أبو يعرب المرزوقي، الثورة القرآنية، ص 57).

كذا كذا! فبمجرد أن تبرهن بالعقل على صحة القرآن مثلًا، وعلى أنه منقول تواترًا من دون شك، وأن التواتر دليل عقلي أصالة، هو من قبيل "أسخف الأفكار" في نظر "أستاذ الشنقيطي" صاحب مصطلح تمسيح الإسلام! ولا غرابة أن يقول هذا إذا كان يصرّح بلا مواربة أن "القطعي من الأوهام" (أبو يعرب المرزوقي، حرية الضمير والمعتقد، ص 65).

اقرأ/ي أيضًا: محمد مختار الشنقيطي وحيدًا

فلا دليل ولا برهان على صحة القرآن والنبوات والشرائع والدين كله، ولا يمكنك أن تقطع أن هذا هو القرآن الذي أنزل على محمد، فالقطعيات من الأوهام، وقد حصل تغيير في نقل القرآن بطبيعة الحال لكنه "غير مقصود". ولا بد أن نؤمن به إيمانًا "دوغمائيًا" أي بلا دليل عقلي، يقول: "ونسبة الدوغما إلى الدين ليست قدحًا فيه، لأنه يعني أن اليقين فيه من التسليم الإيماني وليس من الاستدلال البرهاني" (أبو يعرب المرزوقي، حرية الضمير والمعتقد، ص 186). تمامًا كما يعتقد أصحاب التثليث، تناقض لا عقل فيه، ولكن الإيمان به ليس إلا دوغما وتسليم! وهذا لا يضرّ عند صاحب المصطلح!

إنه لا وجود لدليل على الدين إلا: "برهان ربي الوحيد الذي يمثل النور الذي يقذفه الله في القلب، لا دليل عليه ولا دليل ضده" (أبو يعرب المرزوقي، حرية الضمير والمعتقد، ص 64). وهكذا فالقضية ليست إلا إيمانًا دوغمائيًا، وكل الأديان حينئذ سواء، ما دام لا دليل عقليًا على صحة دين منها.

النص الرابع: من تمسيح الإسلام إلى توثين الإسلام: "المسلمون يجعلون رسول الله وثنًا لأنهم ينسبون إليه معجزات حسية"!

يقول المرزوقي، الذي يقدّره محمد مختار الشنقيطي "الغيور على دينه"، والذي "لا يجامل في الحق أحدًا" (اللهم سلم سلم) ويسميه "أستاذنا"، يقول: "ولكن موثّني الرسول ذهبوا إلى حد نفي كل حجج القرآن الكريم، وادّعوا له معجزات غير المعجزة القرآنية حتى يعودوا إلى عكس الروح القرآنية فيصبح الإعجاز قولاً بخرق العادات بدلاً مما هو عليه في القرآن الكريم احتجاجًا بانتظامها، لذلك فيمكن أن يعد هذا العمل [أي الكتاب الذي أورد فيه المرزوقي هذا النص] تخليصًا للإسلام والمسلمين من هذا التوثين" (أبو يعرب المرزوقي، شرعية الحكم، ص 239، هامش رقم 29، وما بين معكوفين هو من كلامي).

فماذا يقول التلميذ النجيب عن أستاذه العظيم الذي ينفي وجود أي معجزة حسية للنبي الكريم غير القرآن؟ وما قول التلميذ النجيب و"أستاذه" العبقري في "المعجزات الحسيّة" المنسوبة إلى الأنبياء، الواردة في القرآن الكريم؟ أهي خارجة من الروح القرآنية التي تحتج بانتظام السنن لا بخرقها؟ أم هي من هذا الوجه وثنية وتوثين؟ وإذن فالإسلام جاء بوثنية بديلة، ولم يعد هنا تمسيح للإسلام، بل توثين للإسلام. ومن آمن بتلك المعجزات الحسية كعصا موسى وناقة صالح وإحياء الموتى لعيسى أهو يا ترى يؤمن بوثنية؟ (لا يقول المرزوقي بوقوع تلك المعجزات حقًا بل يراها رموزًا لأشياء أخرى، جريًا على تأويل باطني، لكن المقالة لا تكفي لنقل كلامه الذي هو هذيان محض) وإذن فالنبي نفسه والقرآن جاءا بوثنية وتوثين، والقرآن إذ يطالب بالإيمان بهذه المعجزات إنما يطالب بتوثين. وقانا الله من عمى الأبصار والبصائر!

اقرأ/ي أيضًا: محمد مختار الشنقيطي وميزان الأخلاق المعطوب

 

النص الخامس: "الرسول الحقيقي ليس هو الذي يجيء بمعجزات حسية، والرسالات الماضية فشلت"!

وفي هذا يقول المرزوقي: "لا يمكن أن يكون الرسول رسولاً حقيقيًا إذا كان من شرطه المعجزات التي من جنس ما يقص القرآن في كلامه عن فائدة خرق العادات، لأن ذلك لم يفد في الماضي بدليل فشل الرسالات السابقة" (أبو يعرب المرزوقي، فلسفة التاريخ الخلدوني، ص 96، هامش 5).

معنى هذا أن موسى وعيسى وصالحًا وغيرهم من الأنبياء الذين جاؤوا بمعجزات حسية ليسوا رسلًا "حقيقيين" وإنما رسل فاشلون! (ألف مبروك!). وكل هذه المعجزات التي من "جنس ما يقص القرآن في كلامه"، يراها المرزوقي "غير مفيدة"! وأن الله بعث أنبياءه بشيء "غير مفيد"، بدليل فشل الرسالات السابقة! (ما شاء الله ما شاء الله، أهنئ أستاذ التناقض الأخلاقي بعقله، وبعقل أستاذه).

النص السادس: "الإسلام دين اللادين، ييسر لأتباعه الانزلاق إلى حياة شبه بهيمية، وهذا من البيّن بنفسه"!

وفي هذا يقول الأستاذ العبقري صديق الشنقيطي الذي يعظّمه، يقول: ""فكان هذا الدين كأنه دين اللادين بالمعنى المتعارف من الأديان المتقدمة عليه زمانًا والمحرفة له بالذات. وبيّنٌ بنفسه أن مثل هذا الدين بما هو دعوة إلى العودة إلى الفطرة يبدو وكأنه دعوة لتخليص الإنسان من المحرّمات، مما يجعل من اليسير أن ينزلق أصحابه في أحايين كثيرة بالرخص أحيانًا وبالطمع في العفو أخرى إلى حياة شبه بهيمية" (أبو يعرب المرزوقي، تجليات الفلسفة، ص 134 وما يليها).

فليخبرنا "أستاذ التناقض الأخلاقي"، أتجرّأ أحد من هؤلاء "الذين غلبت عليهم مسيحيتهم" أن يقول في حق الإسلام هذا أو في حق الأمة المحمدية هذا؟

لمن يا ترى يبدو الإسلام "دين اللادين"؟ لمن يا ترى يبدو أصحاب هذا الدين منزلقين في حياة "شبه بهيمية"؟ بعيون من؟ بعيون جميع الناس؟ بعيون اليهود؟ بعيون الكاثوليك؟ بعيون المرزوقي نفسه؟

وهل في الدنيا مسلم يقول عن دينه إنه ييسّر على أتباعه الانزلاق في حياة شبه بهيمية؟ هذا ما يقوله القدّيس الأعظم الراهب المرزوقي (أستاذ الشنقيطي) الذي يصمت عنه صمت القبور بل يبجّله ويعظّمه، هذا ليس تمسيحًا للإسلام، حاشا وكلّا!

النص السابع: "قُتِل الوحي، والإسلام دين تاريخي يتحدد بموضوعيه العلم والعمل بما هما منتجان تاريخيان"

يقول المرزوقي: "إن حظ الحنيفية السعيد: هو أنها كانت، بالضرورة الخارجية (التاريخ العربي المتقدم عليها)، وبالضرورة الداخلية (طبيعة الدين كما حدده القرآن)، دينًا تاريخيًا يتحدد بتحدد موضوعيه أعني العلم والعمل" (أبو يعرب المرزوقي، تجليات الفلسفة، ص 134 وما يليها، وما بين أقواس هو من كلام المرزوقي).

فالإسلام "دين تاريخي"، يتحدد بموضوعيه، العلم والعمل، وليس العلم والعمل هما اللذين يتحدّدان به (تأمّل أيها العاقل)، دين "تاريخي"، يتشكل ويتلون ويتغير تاريخيًا، ثم يتحدث صاحبنا بعد هذا عن تمسيح للإسلام، أو عن علمنة للإسلام، ونصوص المرزوقي في هذا المعنى كثيرة. ويستعمل أحيانًا تعبير "قتل الوحي"، فالوحي لم ينقطع فحسب، ولكنه "قُتِل قتلًا"، ليس حيًا فنأخذ منه، ولكنه "مقتول مقتول يا ولدي"! (أعظم الله أجر الشنقيطي في الوحي الذي نعاه أستاذه، وأعظم أجورنا في الأخلاق التي هو أستاذها).

اقرأ/ي أيضًا: اقتحام الجماهير للسياسة.. أفكار عن الإسلام والسلطة

قال المرزوقي: "فأفلوطين ومحمد صلى الله عليه وسلم؛ بتجاوزهما لحدَّيْ ممارستهما (الفلسفة والدين)؛ قد أثبتا أن طبيعة ممارسة كل منهما هي ممارسة مقابِلِه"، أي إن أفلوطين جعل فلسفته دينًا ثابتًا، ومارس فلسفته بوصفها دينًا "مقدسًا"، أما محمد فيمارس دينه بوصفه فلسفة (غير مقدّسة) فأحال الدين بما هو دين إلى "فلسفة" اجتهادية، تتغيّر عبر العصور، ولا يُقطع فيها بشيء، ويتابع: "أفلوطين جعل الفلسفة دينًا، ومحمّد صلى الله عليه وسلم جعل الدين فلسفة، الأوّل جعل الدين غاية الفلسفة بختم العلم فقتلِه، والثاني جعل الفلسفة غاية الدين بختم الوحي فقتلِه، ولمـّا كان العلم يجب ألا يختم؛ صار ما فعله أفلوطين إخراجًا للإنسان من التاريخ علمًا وعملاً، ولمّا كان الوحي يجب أن يختم صار ما فعله محمد صلى الله عليه وسلم إرجاعًا للإنسان إلى التاريخ علمًا وعملاً، وإذن فالإنسانية لم تصر تاريخية فعلاً إلا بفضل المحمدية" (أبو يعرب المرزوقي، تجليات الفلسفة، ص494، هامش 1).

وكل مسلم على وجه البسيطة يعلم أن ختم الوحي لا يعني "قتله" وموته والقضاء عليه، بل هو روح من أمر الله تسري في جسد هذه الأمة وتحييها بقيمه الأخلاقية الخالدة وقطعياته التي لا تتبدل ولا تتغير. ولكنّ الوحي عند المرزوقي (أستاذ الشنقيطي الممدّح) مقتول! وليس المرزوقي بمن يجهل دلالات كلامه، ولا هو ممن لا ينتقي ألفاظه بعناية شديدة "في رسالة دكتوراه" قدّمها في "السوربون" (بلاد العلمانية اليعقوبية). وقتلُ الوحي ليس إلا إلغاءه وإنهاءه، أي عدم العودة إليه، وعدم اتخاذه مرجعًا ومعيارًا، بل الدين يتحدّد في العلم والعمل التاريخيين، وليس العلم والعمل محكومين يحدّدهما الدين بقطعياته التي يلغيها المرزوقي أصلًا. هذا هو مشروع محمد بن عبد الله (صلى الله عليه وسلم) الذي يقارنه بأفلوطين من حيث كلاهما جاء بمشروع فلسفي مقابل!

النص الثامن: بصراحة ووضوح: "الإسلام السنّي علماني"!

وإذا كان مصطلح تمسيح الإسلام عند "أستاذ الأخلاق" هو علمنة الدين، فهاهوذا شيخه المتفلسف صاحب المصطلح نفسه يصف الإسلام السنّي تصريحًا لا تمليحًا، وبمباشرة لا بمواربة، بأنه "دين علماني"، أي إن صاحب مصطلح "تمسيح الإسلام" هو ذاته يمسّح الإسلام صراحةً، فيقول: "الإسلام السني علماني بالمعنى الإيجابي للكلمة أعني بمعناها في كل البلاد الأوروبية غير اليعقوبية تلك التي حققت الإصلاح الديني فتصالح فيها العقل والنقل ولم تمر بإرهاب الثورة الفرنسية (مثل ألمانيا وإنجلترا)، ذلك أن علم الكلام في الفرقة السنية الممثلة للأغلبية الساحقة من السنة (الأشعرية) حدد منزلة الحكم فاعتبره من المصالح العامة وليس من العقائد كما هي الحال عند الشيعة" (أبو يعرب المرزوقي، شرعية الحكم، ص 22).

فإذا كان تمسيح الدين عند أستاذ التناقضات هو علمنته من الداخل، فما قوله في "تصريح" أستاذه البروفيسور صاحب مصطلح تمسيح الإسلام الذي حسم القضية ووصفها، بزعمه، كما هي؟

شفى الله أستاذ الأمراض السياسية وعافاه، ما كان أغناه عن أن يحرج نفسه إلى هذا الحدّ الداعي إلى السخرية والشفقة.

إنها حقًا صورة كاريكاتورية، محمد مختار الشنقيطي في مقاييس "أستاذه" المرزوقي "صاحب المصطلح الأعظم"، هو من جماعات الإسلام السياسي التي هي، عند شيخه، أدوات في تمسيح الإسلام ما دامت شاركت في "لعبة الدولة القُطرية".

والمرزوقي في عين "أستاذ التناقضات الأخلاقية" ليس ممسحًا للإسلام على الرغم من النصوص الفاقعة التي سقناها (وهي غيض من فيض على الحقيقة لا المبالغة)، والتي لم يقل ولا بعشر معشارها "الذين غلبت عليهم مسيحيتهم"، كما يعبّر.

كل تلك النصوص لا توازي البتّة لا في قبح الأسلوب، ولا في ضعف الأفكار وتهافتها، النصوص التي يعدّها أستاذ الشيزوفرينيا تمسيحًا للإسلام، إذ يتعدّى الأمر عند أستاذه المرزوقي التمسيح إلى التوثين.

يتعامى محمد مختار الشنقيطي عن مشروع المرزوقي الذي هو نفي قطعيات الإسلام ثبوتًا ودلالة، وينسب الوثنية إلى المسلمين والقرآن، وأن الإسلام ييسر لأتباعه الانزلاق إلى حياة شبه بهيمية، ويرى الشريعة متناقضة، ويرى أن النص القرآني محرف تحريفًا غير مقصود. كل هذا يراه الشنقيطي بعينيه فيصمت صمت القبور، بل يدعو إلى قراءة المرزوقي ويرجو الله له أن "يسلّم أنامله"! فلا يرى الجذع بارزًا في عينيه وعيني أستاذه، ولكنه، للمفارقة والازدواجية والتناقض، يضع القذاة في أعين الآخرين تحت الميكروسكوب، ويطلق لسانه فيمن لم يطرح ولو معشارًا من ذلك الطرح الأثيم، فضلًا عن اختلاف الدين أصلًا.

صورة كاريكاتورية حقًا، تصل إلى درجة التسلية والإحماض، والفكاهة والإطراف، وأحاديث وأسمار تروى على وجه الدهر، يتسلّى بها المحزونون، وتضحك بها الثكالى.

إذا كان هذا حال محمد مختار الشنقيطي وأستاذه، وهي حال تدعو إلى الشفقة كما رأينا، ثم مع هذا يصرخ: "تمسيح الإسلام، تمسيح الإسلام، كما قال أستاذنا البروفيسور!"؛ فقد آن لنا أن نقول:

ولو أنّي بليتُ بهاشميٍّ .. خؤولته بنو عبد المدانِ

لهان عليّ ما ألقى ولكن .. تعالوا فانظروا بمن ابتلاني

 

4. آخر القول: "أيا عجبًا حتى كليبٌ تسبّني .. كأن أباها نهشلٌ أو مجاشعُ"!

ذاك هو محمد مختار الشنقيطي في لمحة موجزة فقط من تقلّباته واندفاعاته الهوجاء، وتناقضاته وانتقائيته. وليست المسألة أنه "غيّر" آراءه كما يطيب للسذّج أن يبرروا، بهدوء وتأنٍ ودراسة، ولكنه انقلاب سريع، من طرف أقصى إلى طرف أقصى، في نزق وخفة وطيش ومزايدات أخلاقية رديئة، وتكرر الأمر معه مرة بعد مرة بعد مرة، يعني أن هذا هو دأبه وطريقته، وهي ما يجمعها النزعات الثلاث التي تكلمت عنها في المقالات السابقة: "القينقاعية"، و"الخويصرية"، و"المعيطية".

لقد أعددت مقالات تربو على العشرة، كل ما فيها كما رأيت أخي القارئ في المقالات الأربعة التي نشرتها، من اللعب والبهلوانية والازدواجية والتناقض.

لكن نفرًا من عقلاء الإسلاميين وكرامهم، استحلفوني بالله، ولا يسعني ألا أبر أيمانهم، أن أكفّ وأتوقف، لأن هذا كما قال بعضهم تضييع للوقت في الرد على من لا يستحق، وعند بعضهم مراعاة لأخوّة لم يرعها الظالم المعتدي، وحفظًا لودٍّ لم يصنه "أستاذ الأخلاق".

ونزولًا عند رغبة هؤلاء الكرام الأماثل الأفاضل، ألوي هنا عنان القلم، وأحطّ عصا الترحال في بلاد العجائب، وأودية الجنّ والعفاريت! وأترك بقيّة السهام في كنانتها، مَرِيشةً تترقب الانطلاق لتُصمي الهدف إذا لاح، وأعيد الميسم إلى موقده قريبًا من اليد، إذا اقتضى أن أَسِم به خراطيم الباطل إذا امتدّت. عسى من ضلّ يهتدي، ومن تاه يسترشد، ومن ظلم يكفّ، ومن بغى يرعوي، ومن افترى يتوب، ومن ولغ في أعراض الناس يراجع نفسه لو كان له ضمير، ومن تناقض ينسجم ويقيم الوزن بالقسط ولا يخسر الميزان.

 

اقرأ/ي أيضًا: 

برنامج "قراءة ثانية".. جدل كاشف

برنامج "قراءة ثانية".. حوار في مواجهة الوصاية الفكرية