29-أكتوبر-2021

محمد قبنض

كان لبائع فتات الروس والمقادم في منطقة العمارة الحلبية، ثم تاجر العقارات والإنتاج التلفزيوني لاحقًا، المدعو محمد قبنض؛ أن يظل حبيس الأضواء والشهرة رغم عبوره العجائبي إلى مجلس الدمى السوري برتبة مشرّع قانوني، شأنه في ذلك شأن معظم الأعضاء الذين كان يدفع بهم إلى خشبة المسرح ومن ثم يعاد سحبهم إلى زاوية الظل التي خرجوا منها، دون أن يتسنى لأحد منهم أن يعلق في أذهان السوريين أو ذاكرتهم البعيدة، لولا تدخله الساذج في معممة الهجوم الكيدي الذي كان يتعرض له الوزير عماد سارة، جراء سياسات وزارته التي تقوم على التطبيل والتزمير الأجوف لانتصارات الجيش قبل تحققها الميداني، مما يخلق أفدح الضرر بسمعة الإعلام الوطني ومصداقيته لدى جمهور المولاة العريض، دون أن يدري أنه بفعلته تلك لا يدافع عن الوزير المستهدف بقدر ما يدينه ويزيد الطين بلّة "الطبل والزمر أشو عم تحكي ولك خاي... الله يسامحك يا زميل في أحسن من التطبيل والتزمير والفرفشة".

فالدخول إلى مجلس الشعب لشخص مثل قبنض لا يعدو كونه وسيلة لإدارة مشاريعه الاستثمارية وجهًا لوجهًا مع الوزراء دون وساطة تذكر

إذا كان للمرء أن يخمن جملة الأسباب التي كمنت وراء قرار الإعلامية رابعة الزيات بوقوع خيارها على قبنض كضيف على برنامجها الاجتماعي "شو القصة؟" الذي يبث أسبوعيا على تلفزيون "لنا" لصاحبه سامر الفوز، سيجده في طبيعة السيرة الدرامية للرجل، في تحولاته من الغنى إلى الفقر، ومن ثم متاجرته بالعقارات إلى متاجرته بالسياسية، كما سيجده في طبيعته التلقائية المخضبة بنوع من الحمق المولد للضحك، دون أي تكلف أو ادعاء على النحو الذي قد نجده عند بعض ممثلي الكوميديا.

اقرأ/ي أيضًا: أمل عرفة.. اعتزال القرف

فإنه يذهب للاعتقاد بأن دوافع الرجل للظهور في ذلك البرنامج، ذات صلة باستغلال الفرصة لتظهير نفسه كرجل عصامي صنع نفسه بنفسه، على نحو ينفي الشائعات عن ثروته الملوثة بتجارة المخدرات، كما رغبته بالظهور بمظهر رجل الأعمال الوطني، الذي آل على نفسه الاستثمار في بلده في الوقت الذي كان يسارع الجميع للفرار منه، في وقت أزمته الكونية الكبرى، الأمر الذي يعني بكف ألسنة الناس والمغرضين عنه في كل ما يفعل وما يقول.

في اللقاء الحدث بدت سيرة قبنض الذاتية في رحلته من الفقر إلى الغنى، أقرب ما تكون لسيرة الأبطال الأسطوريين على غرار سرجون الأكادي وموسى التوراتي، التي شاءت الأقدار الإلهية أن يتقرر مصيرهما في الترقي الاجتماعي، عبر عاملي الحظ والصدفة، أو عبر النعمة الإلهية وحدها، وهو الأمر ذاته الذي سنراه متكررًا مع قبنض، مع فارق وحيد يتعلق بطبيعة الحيز الجغرافي الذي سيكون شاهدًا على حدوث ذلك التحول، حيث الشارع، وبالتحديد واجهة إحدى بوابات ملاهي لندن الليلية.

ففي الحكاية كما رواها صاحبها، إن العناية أو النعمة الإلهية وحدها هي من تدخلت يومها لإنقاذه من الضياع الذي كان يتخبط به تلك الليلة الباردة، حيث وجد نفسه خال الوفاض من كل شيء، من الدفء كما من المال، والألعن من ذلك من القدرة على إبلاغ أحد ما عن الجهة أو الجهات التي عليه أن يسلكها إلى مكان إقامتها، حيث لغته الإنجليزية لا تتعدى الثلاثة عشرة مفردة، حين أرسلت له تلك العجوز البريطانية، التي ستصير له مع الأيام أمًا وأبًا ولسانًا ومحفظة جيب لمشاريعه المستقبلية.

ثمة قرابة روحية بين تحولات قبنض الاجتماعية وفكرة الولادة بكل ما يصاحبها من تحول وجودي من حال إلى آخر، فإذا ما سلمنا بأن ولادته الأولى قد تمت على النحو الذي تجري فيه جميع حالات الولادة الطبيعية، بكل ما فيها من تحول دراماتيكي من العدم إلى الوجود، فإننا لا نبالغ في الحديث عن ولادته الثانية التي تمثلت بتحوله من عالم الغنى إلى الفقر، كمقدمة لولادته الثالثة التي ستكون على شكل تحول من عالم التجارة؛ تجاه العقارات وأشباهها إلى عالم السياسية في بلد لا يوجد فيه سياسة أصلًا.

لا تخطأ العين طبيعة الحمق الذي يتحلى به شخص مثل قبنض، إلا أن هذه السذاجة التي تشعر مستمعيه بالتضامن الوجداني معه سرعان ما تزول

وهكذا فبدلًا من أن توجه الزّيات حديثها للسخرية من الطابع اللاعقلاني الذي يخترق الواقع السوري، والمتمثل بوجود دولة فيها كل مؤسسات الدولة الحديثة ولكنها عاطلة عن العمل بأمر رئاسي، بغرض تحوليها حديقة لثراء العائلة وهيمنتها السلطوية، تقوم بتوجيه مطرقتها الفولاذية على رأس الرجل وتستغل نقطة ضعفه الوجودية، المتمثلة بتعثره الفادح بالكلمات ومخارجها وأساليب تدوريها، لتسأله عن الأسباب التي تدفع رجلًا شبه أمي للدخول إلى مجلس لا يستطيع الحديث فيه باللغة الفصحى، أو بالأحرى لا يستطيع الحديث فيه عن شيء. يأتيها الجواب من المستنطق، على عكس ما تحب وترغب، بأن الغرض من وجود ذلك القبنض في مثل هذا المجلس هو تمثيله الحقيقي لملايين الأشخاص الذين لا يحسنون الحديث باللغة الفصحى وزواريبها.

اقرأ/ي أيضًا: باسم ياخور في برنامج "أكلناها".. الانحدار نحو القبح والتفاهة

تسأل الزيات على نحو تهكمي عن الأسباب التي تدفع رجلًا عييًّا بالدخول إلى مجلس الشعب، ولا تنظر جوابًا عن الأسباب الحقيقية التي تجعل شخصًا أميًا، أو شبه أمي، بوضع نفسه في هذه الورطة الروحية الكبيرة، بقبوله كما غيره من المتحدثين الطلقاء بتشييء أنفسهم وتحويلها إلى مجرد دمى في يد الرئاسة الأسدية التي تتلاعب بمصيرهم. فالدخول إلى مجلس الشعب لشخص مثل قبنض لا يعدو كونه وسيلة أو جواز سفر لإدارة مشاريعه الاستثمارية وجهًا لوجهًا مع الوزراء دون وساطة تذكر، كما تتبر في الوقت نفسه وسيلة للتنقل الآمن والسريع عبر حواجز النظام على طول وعرض البلاد. أما من دون ذلك من ألاعيب عن دور أعضاء المجلس من تشريع وتغيير فهو خارج حسابات الرجل كما حسابات غيره.

عجيبة هي حقًا ولادات قبنض وتحولاتها الدائمة، وإذا كان للمرء أن يتفهم طبيعة مغامرته في الدخول إلى عالم السياسة، فإنه ليحار بدخوله إلى عالم الانتاج التلفزيوني، الذي يتطلب المعرفة التامة بكواليسه، من قدرة على قراءة النصوص المقترحة والمفاضلة بين المخرجين المتقدمين، كما الممثلين الأفضل لإنجاح العمل، هذا ناهيك عن حجم التمويل المناسب لإنتاج العمل وإخراجه بالصورة التي يستحق، وفوق كل ذلك تعامله الفطن مع أناس تقوم مهمتهم على الحكي والمحاججة وتدوير الكلام. ولكن سرعان ما سيزول هذا العجب أمام الولادة الخامسة للرجل، إذا عرفنا الطريقة التي يتعامل فيها مع المال أو الاستثمار، بوصفه مطرحًا لتحصيل الربح دون أية اعتبارات أخرى.

منحت المقابلة قبنض فرصة تظهير صورته كشخص طيب تحرسه العناية الإلهية، دون أن تدفعه أسئلة الزيات المتذاكية للكشف عن حيواته السابقة، أو أقنعته السوداء التي يتوارى خلفها. فلقد تحاشت السيدة تذكيره بفعلته البطولية صيف عام 2018 وهو يقايض محاصرين بلدة كفر بطنا في الغوطة الشرقية على جوعهم وكرامتهم، في إرغامهم للهتاف لقاتل أبنائهم مقابل سندويشة فلافل وزجاجة ماء، وكما تجاهلت عن عمد طريقته السوقية في تحديد أتعاب كادر العمل الفني الذي يعمل معه بطريقة تاجر البصل، الذي يتشاطر بتبخيس سعر التجارة المعروضة عليه، كما يتشاطر بتسويف دفع المبالغ المستحقة لأصحابها إلى أجل غير مسمى، أملا في تنازلهم عنها.

لا تخطأ العين طبيعة الحمق الذي يتحلى به شخص مثل قبنض، إلا أن هذه السذاجة التي تشعر مستمعيه بالتضامن الوجداني معه سرعان ما تزول، فوراء هذا الساذج الطيب وجه آخر لا يقل شرًّا وتشبيحًا في إصراره على تجميل كل قبح في واقع السلطة الأسدية. فإذا ما سأل عن سبب خسارته الانتخابات في الجولة التشريعية السابقة، أصر على أنه لم يخسر، ملمحًا إلى نوع من التلاعب. وعندما يسأل إذا ما كان يلمح إلى التلاعب الذي قد شاب العملية، ينفي نفيًا قاطعًا، يشي برغبته بالحلف برأس أمه بأنها كانت نزيه وصادقة أكثر من أوراق سجله المدني.

تريد رابعة الزيات أن تقول إن تحولات المرء من الغنى إلى الفقر في سوريا أمر متروك للرحمة الإلهية، ولا علاقة له من قريب أو بعيد بالفساد

أما في الحالات التي يجد فيها نفسه محصورًا في خان الـ"يك"، فإنه لا يتحرج باللجوء إلى التشبيح، عبر إلقائه اللوم على أياد خارجية نكراء تريد الإضرار بسمعتهما سمعة هذا الوطن الغالي.

اقرأ/ي أيضًا: عابد فهد.. انفصام في الموقف وخلط في الأدوار

لم تحضر لنا الزيات قبنض إلى برنامجها لتقدم لنا شخصًا طريفًا طيبًا، يمكن التنمر عليه دون مساءلة وحسب، بل لتوصل لنا رسالة مفادها بأن تحولات المرء من الغنى إلى الفقر في هذا البلد العجائبي أمر متروك للرحمة الإلهية، لا علاقة له من قريب أو بعيد بفساد الحكومة، ولا بطبيعة النظام السياسي التي تدار على أساسه.. فكل خطيئة وعثرة هي من عمل أيدنا تقول الزيات، فبدل أن تعمد إلى تحميل وزر وجود أشخاص مثل قبنض في مجلس الشعب إلى القائمين على هذا الأمر، تعمد إلى تحميل مثل هذا الوزر إلى أشخاص مثل قبنض لا ذمة لهم ولا وجدان، يصرون على التنافس على مطارح وأماكن كان من المفروض أن تكون مخصصة لغيرهم من الوطنيين الأقحاح.

 

اقرأ/ي أيضًا:

سامر المصري يتوسّل وطنًا لا رجاء فيه

مي سكاف والعزاء الممنوع