20-أغسطس-2015

"أن تكتب مثل ماركيز لا يعني أنّك امتلكت أبعاده الفكريّة" (الترا صوت)

يعتبر محمد فطومي، من أبرز الأسماء ضمن موجة القصة الجديدة في تونس، رغم إقامته المعزولة نسبيًا عن الحراك الأدبي، في المدن الكبرى، في مدينة سبيطلة، جهة السباسب وسط تونس، إلا أن نصوصه فرضت وجودها، وأصبحت تلقى اهتمامًا متزايدًا من القراء. وقد أتاح النشر الإلكتروني لنصوصه رواجًا لا بأس به، كما تسنى له المشاركة في عددٍ كبيرٍ من الملتقيات الخاصة بالقصة القصيرة. وأمكن له ذلك الفوز بعدة جوائز في تونس وخارجها.

مراحل صناعة القصة هي: فكرة، وموضوع، وشكل مناسب، وقفلة

ولفهم عوالم السرد لدى هذا القاص، ونظرته لتشكل النص السردي الجديد، أجرى معه "الترا صوت" اللقاء التالي:

أثارت نصوصك ونصوص طيف آخر من القاصين اهتمامًا كبيرًا من قبل المشرفين على الصفحات الإبداعية المنشورة ورقيًا وإلكترونيًا. حسب رأيك ماذا حدث بالضبط؟ هل تشعر باختلاف ما في توجه في الكتابة السردية؟ ما يميز نصوص الطيف الجديد الذي أنت واحدًا منه؟

ليس هناك فيما أومن شكل جديد بمعنى الكلمة، فيما يتعلّق بالقصّة القصيرة التونسيّة وحديثنا عن الشّكل، والأعمال القصصيّة التي تجاوز فيها أصحابها الشّكل المعهود للقصّة، أسمّيه انفتاحًا واستدعاء للمتاح الشّكلي للقصّة التي أبدعها الكتاب في كامل أنحاء العالم، على امتداد قرنٍ من الزمان أو يزيد.

أعتقد أنّ البحث يجب أن ينصبّ على الجيّد أيّا كانت الهندسة الفنّيّة والدّلاليّة للقصّة، والجيّد يذيع نفسه ويفرض قراءته والاهتمام به من قبل الأوساط المتابعة للشّأن الإبداعي، أو التي تمتلك موهبة التقاط المعنى وتنقب عن احتمالات أخرى للإنسان، وللتعبير عن أسراره البكر.

 

في نص لك بعنوان "المسافة" أنت تبدأ بوصف مشهدي مسهب للبطل شعبان الماهر في لعبة الشطرنج. ألا ترى أن ذلك كتب بوعي بصري سينمائي؟

المتعارف عليه في الشّطرنج أنّها لعبة غاية في الصّعوبة، وتتطلّب براعًة كبيرًة إذا كان المنشود هو الرّبح، في مثالنا بطل أقصوصة المسافة أتساءل على نحو تشاركيّ مع القارئ، ماذا نسمّي إذن ترويض اللعبة لإرضاء أهواء اللاعب المقابل صاحب الفضل الذي سيدفع ثمن الوجبة والسّجائر، والسّؤال الأخطر من يلعب في هذه الحالة شعبان أم الحاجة؟

أما ما وصفته على أنّه استدعاء لتقنية السّينما، فسل السّياق الذي اختاره الموضوع، طبعًا أقول هذا من باب المبالغة، لكن حقيقة الفكرة هي التي تصمّم القصّة برمّتها، ومراحل صناعة القصّة حسب رأيّ هي فكرة، فموضوع، فشكل مناسب، فقفلة وفيّة للأثر التي ينوي الكاتب أن يخلّفه في ذهن القارئ.

بعض الكتاب فهموا أن شعرية القصة هي كتابة غير المعقول  أو الغموض

 

تصفع قارئك في أقصوصة "يا ترى" بواقعه المر. جامع علب بلاستيكية يحولها للعب سيارات. ألست تمارس بذلك هزة مقصودة في قرّائك؟

هي أولى القصص بالمجموعة "زبد ورخام" وكي لا أجانب الصراحة، كان الاختيار مقصودًا من جهتي لسببين، أوّلهما لأنّ فيها تنويعًا من حيث الشّكل كأنّي أقول للقارئ، سيكون لك موعد مع قصّة قصيرة مغايرة، ثانيًا لأنّها قصّة الأسئلة بامتياز في تجربتي، أي كأنّي أقول إنّ القصّة أسئلة واقتحام لمعان حارقة ما نزال نتهرب من مواجهتها.

 

جل نصوصك تنشر خارج تونس، في السودان مثلًا وفي بعض دول الخليج. ما سر عدم نشر الصحافة المحلية لما تكتب؟

ليس جلّ نصوصي، بل جميعها، باستثناء نصّ واحد نُشر في الحياة الثقافيّة وهو بعنوان "المدرسة" وكانت الصدفة والرّهان المشكور، هما اللذان أتاحا لي فرصة النشر في تونس. وبالمناسبة أشكر الأستاذ محمد الخالدي الذي راهن على النصّ، وكان عند وعده بنشره في المجلة عقب حصوله على الجائزة الأولى في ملتقى الأدباء العصاميين بسوسة.

أمّا مسألة النشر خارج تونس، فهي اختيار من ليس لديه خيارات بديلة، وإن كان من المهم أن يعرّف القاص بتجربته على مستوى عربي، وأرى أنّها خطوة عمليّة وضروريّة حتّى يزداد الكاتب شغفًا بتطوير نصوصه والبلوغ بها إلى مراتب فنّيّة محترمة قبل دخول غمار النّشر.

والصّحافة المحليّة تفتقر إلى متون إبداعيّة تسع الجميع، ناهيك أنّ مجلة الحياة الثقافية تكاد لا تفسح المجال إلاّ للقاصين المنتمين روحيًّا إلى المجلة، وأعني إمّا الذين حباهم حسن الطالع بمنزلة حميمة لدى المشرفين، أو الأسماء المتداولة. ولك أن تتخيّل وأن تعذر أيضًا هيئة المستشارين القائمين على المجلة، وهم يقسّمون سبع صفحات أو ثماني على جميع المبدعين القاصين في البلاد.

 

هناك مجموعة أخرى من السرّاد الشبان اختاروا الهروب بعيدًا وتعلقوا بعجائبية ماركيز والكتابة الإيروتيكية، كما يتناولها هنري ميلر في تهويماته، أو محمد شكري في بوحه الجريء.. أي مستقبل لقص لا يقول متقبليه؟

ليس صوابًا في اعتقادي أن نصف أسلوبًا بعدم قدرته على استيعاب التجارب والمضامين اللصيقة بالمجتمعات والشعوب، فالغاية بالأساس هي تفجير ممكنات جديدة للإنسان من خلال "مداعبة" خصوصيّاته الغامضة المطمورة في داخله بفعل العادة وتراكم الأصباغ، التي يحاول أن يطلي بها "فضائحه" وهزائمه الصّغيرة، بالإمكان دائمًا استحضار أيّ نوع من أنواع الكتابة، إن صحّ أنّ سحريّة ماركيز وإيروتيكية ميلر تعدّ نوعًا في حدّ ذاته، وأرى أنّها حيلة من حيل عديدة قد يلجأ إليها الكاتب عند كتابة قصّة دون أخرى، الحذر كلّ الحذر فقط من سوء اختيار الحيلة القصصيّة المناسبة في كلّ مرّة، ذاك أنّ القاصّ الجيّد ينبغي أن يميّز بين الترويع العجائبي في تعامله مع السحريّة الواقعيّة، وبين إحداث الدّهشة المرجوّة لتمرير رسالة تُفهم كما أراد لها القاص أن تُفهم.

الملتقيات والمهرجانات الأدبية لا تقلّ أهمّيّة عن النّشر

 

كيف يشق كاتب ما مساره وفق استمارة وهل يذهب نصه بعيدًا؟

القصّة حدث غريب كما يعرّفها تشيخوف، لكن أخشى أنّ بعض الساردين فهموا المقولة خطأ، فظنوا أنّ المقصود هو كتابة غير المعقول، أو غير الجائز، أو شحن النصّ بالغموض. أقصد أنهم يستنسخون تجارب بعينها، وأنت تعرف من أعني من المجانين المتطاوسين وهم ضعفاء. أن تكتب مثل ماركيز لا يعني أنّك امتلكت أبعاده الفكريّة ورؤيته للعمل الإبداعي، فالرجل فهم جيّدًا ما المطلوب من القاص، وما انحيازه إلى أسلوب الواقعيّة السحريّة، إلاّ من قبيل ركوب الأقصى في التعبير عن مشاكل الإنسان كما سمّاها المسعدي، ولن تمتلك إذا لم تستدع هذا النمط عن حاجة ملحّة أبدتها الفكرة، لن تمتلك من ماركيز سوى الهيكل بالتالي لست تراكم سوى حضائر بناء، وليس بنايات كما تعتقد.

وكي لا أكون متشائمًا أقول إنّ ميزة الكتاب الكبار أمثال خوليو كورتثار، وماركيز، وبول أستر، وميلان كونديرا، يظلّ ظاهرة صحيّة مقارنة باتّباع الكاتب الاستمارة ذاتها مع تغيير المعطيات الحكائيّة فقط. وأعني الكتابة التقليديّة الوفيّة للنص القصصي الذي لا يسمو في نظري إلى أكثر من أن يقال عنه "صحيح".

بالمقابل لا أدعو إلى مقاطعة التجارب السابقة، بل أعتبر مسألة نسف الأولين تهوّرًا من قبل المبدع، إذ كيف يعقل أن ينسف الساكن في الطابق الثاني الطابق الأرضي لمجرد أن تعالى في الارتفاع.

 

كيف تنظر إلى مراودة التجريب في عالم السرد مثلًا هناك من أطنب في رصف شعرية أثقلت كاهل فن الحكي؟

فيما يتعلق بمسألة الشعرية في القصّ، أريد التنبيه إلى أن ذلك يمكن اعتباره من المطبات التي تتربّص بكتابات الجيل الجديد. فالشعرية في القصّ بقدر ما هي مطلوبة وضروريّة في أحيان كثيرة، بقدر ما هي قاتلة للتجربة إذا أسيء فهمها، كما ينبغي.

وهنا لا أعمّم، لكن بحكم قراءاتي وحضوري المحترم في الملتقيات الأدبيّة، استطعت ملاحظة الخطر المحدق بالتجارب الشابة في مجال القصّة، فهي غالبًا، والحديث عن الشعريّة، ما تفهم على أنّها حذلقة وإثراء في غير وظيفة، فتراهم يتفنّنون في ابتكار المحسّنات والاستعارات المركبة، كما لو أنّهم يرشّون مبيدًا على القارئ كي يسلّم بجمال النصّ.
 
 

لكن هناك استخفاف بالقارئ، بل بعض السراد يشترون مسبقًا ذمم الإعلاميين والنقاد ويتلاعبون بذائقة المتلقي، باستخدام حيل ترويجية في احتفالية ما أو مهرجان ما؟

يأخذنا الكلام، وقد تناولنا المتون التثقيفيّة بالحديث، إلى أن نعرّج على الملتقيات والمهرجانات الوطنيّة، التي تُعنى بالقصّة والشّعر طبعًا، فهي لا تقلّ أهمّيّة عن النّشر في نظري، لكن ما أسجّله بعدما راكمت العديد من التجارب كمشارك هو أنّها، أي الملتقيات، تبدو أقرب إلى الواجب أو الإجراء الإداري منها إلى مناسبة إبداعيّة خالصة.

ضربت مثل الاستمارة للتعبير عن الكتابة القصصيّة التي لا تغيّر الشكل أو الحيلة كما عبّرت عنها سالفًا، أي كأنّ لديه استمارة جاهزة وعليه فقط ملأ الفراغات بشخوص جديدة ومضمون جديد، كتابة عموديّة وفية لنمط المقدمة والذروة والتنوير، لو تأمّلت جيّدا لألفيتها تتحدّث في أغلبها عن أمهات القضايا الاجتماعيّة، على نحو رتيب ومتكرر: البطالة، الاغتصاب، الجهل، الحاجة، في حين أنّ القصّة الحقيقيّة في نظري هي فن التقاط الشوارد النفسيّة والانفعالات المهجورة في الإنسان.

هكذا يضمنون رواجًا شبيهًا بالإرهاب، أجده في ذلك سياسة التعمية قبل الكتاب وبعده، حتى أنّ النقاد أنفسهم يجدون أقلامهم مكسورة ومصروفة، كما لو أنّ في الأمر سحرًا عن كتابة سطر واحد في غير صالحه.