29-نوفمبر-2021

من الفيلم (IMDB)

على الرغم من مرور ما يقارب الثمانية عقود على صدور قانون "الحقوق المدنية" 1964، الذي تم بموجبه إقرار الحقوق الأساسية للأمريكيين من أصول أفريقية، فإن المرء مازال يلمس لدى جيل الأحفاد نوعًا من الحنين الجارف لزمن الآباء المؤسسين، تتجلى ملامحه بالذهاب إلى تلك الأزمنة الذهبية عبر تقنية الأفلام الوثائقية، بكل ما تحمله في داخلها من غواية بصرية وروحية لرفع روايات الشهود الشفوية ومشاعرهم الحميمة إلى مصاف الوثيقة التاريخية.

لم يكن السر في شعبية كلاي في مهاراته الرياضية على الرغم من جاذبيتها، بل في جرأته الصارخة على النيل من الصورة النمطية السلبية عن الأفريقي في الثقافة الأمريكية المهيمنة

وبما تتيحه من إمكانية لاستكناه غور الظروف التي ساهمت في رفع مقام بعض مناهضي التمييز العنصري إلى مستوى الأبطال الشعبيين، في مقدمة لاحقة لرفعهم إلى مستوى الأبطال الأسطوريين الذين لا يشق لهم غبار.

اقرأ/ي أيضًا: محمد علي كلاي.. البطل داخل الحلبة وخارجها

أن تكون أسطورة في مجتمع عنصري

لطالما ساد الاعتقاد بأن المنزلة الأسطورية لبطل الملاكمة الأمريكي من أصل أفريقي محمد علي كلاي في أوساط بني جلدته في إنجازاته الخارقة في رياضة الملاكمة، تمكنه من حصد ذهبية الوزن الثقيل في أولمبياد إيطاليا 1960 في عمر الثامنة عشرة، ومن ثم تمكنه بعد أربع سنوات من انتزاع لقب الملاكمة في الوزن الثقيل من مواطنه الأفريقي سوني ليستون، الذي أقل ما يقال فيه بأنه وحش في صورة آدمي، عنيف وذو سلوك إجرامي ولم يسبق له أن هزم قط. إلا هذا التصور سرعان ما سيزول لدى مشاهدي فيلم "أخوة الدم" (Blood Brothers: Malcolm X & Muhammad Ali) لمخرجه ماركوس إي كلارك (Marcus A. Clarken)، عندما سيكتشفون أن السر في شعبية كلاي لم تكمن في مهاراته الرياضية على الرغم من جاذبيتها، بل في جرأته الصارخة على النيل من الصورة النمطية السلبية عن الأفريقي في الثقافة الأمريكية المهيمنة، التي كانت تصر على ربطه بالقبح والشر من جهة، و بالقصور العقلي والبهيمية من جهة أخرى، فيما كان كلاي يصرعلى ربطها ومن ثم على ربط نفسه بالضد منها، بالجمال والعظمة معًا "لستُ جميلًا؟ إنّي لذلك! ألست عظيما؟ سـأهز حبال الحلبة وأتوج بطلًا".

في حين كان لادعاءات كاسيوس كلاي عن الجمال والبطولة أن توحد الأفارقة الأمريكان ضد سياسات التمييز العنصري فقد ساهمت في قسمتهم شعوريا إلى فريقين. فريق ينظر بعين الرضا إلى جرأتها الغير مسبوقة في تحطيم الصور النمطية عن "الزنجي الآبق"، عبر نقلها مستوى الاحتجاج من طابعه الشخصي المكبوت والمتلعثم، إلى طابعه العام العلني والصريح على سمع ونظر أصحاب تلك الخطابات العنصرية. فيما الآخر يصر على التعامل معها بنوع من الاستهجان المشوب بالسخرية، كونها جعجعة فارغة لا تقدم ولا تؤخر في مسيرة نضال الأفارقة لنيل حقوقهم من جهة، ومن حيث النظر إلى مطلقها باعتباره مجرد ثرثار كبير مصاب بداء العظمة الذي يميز المراهقين المتعطشين للمجد والشهرة من جهة أخرى.

كان لخطب الناطق الرسمي لحركة "أمة الإسلام" مالكوم إكس مفعول السحر في نفوس الأفارقة التواقين للحرية، ذلك أنها لم تكن تنطلق في هدمها للتصورات والمعتقدات العنصرية من منطق الرغبة بالتعايش والاندماج مع الآخر على غرار حركة القس لوثر كينغ، بل على نفس الأسس العقائدية للتمييز العنصري ذاتها بفارق وحيد هو التطبيل والتزمير لأفضلية العرق الأفريقي على الأوروبي، أضف إلى ذلك إدعاءاتها بأسبقية العرق الأسود على غيره من الأعراق البشرية الأخرى في بناء الحضارة الإنسانية وعلو مقامها.

كان لخطب الناطق الرسمي لحركة "أمة الإسلام" مالكوم إكس مفعول السحر في نفوس الأفارقة التواقين للحرية

ففي الحلقة المتلفزة التي كان يقدمها الإعلامي مايك والس عن أمة الإسلام بعنوان "الكراهية التي تولد الكراهية المضادة" فاجأ إكس مستضيفه والس بالقول أن "أسود البشرة صالح بالفطرة"، ولما أستفسر منه مايك "هل يعني ذلك أن أبيض البشرة فاسد بالفطرة؟"، عاود إكس الهجوم بنفس النبرة الواثقة "إنه غير صالح بطبيعته، لنقل إنه شرير بالفطرة".

اقرأ/ي أيضًا: محمد علي كلاي.. فقط خذوني إلى القبر

التمييز العنصري.. من المعايشة إلى المقاومة

على ضوء السيرة الذاتية لمحمد علي كلاي يمكن القول بأن لا شيء مميز في معايشة الشاب لسياسات التمييز العنصري مقارنة بمعلمه اللاحق مالكوم إكس، اللهم سوى مما هو متعارف عليه عن تلك الأجواء البغضية، التي كانت تنحدر بالوجود الكوني لكل أفريقي إلى مستوى العبد الخاضع. حتى أنه ليمكن النظر إلى حياة كلاي بنوع من الحظ، فهو لم يعرف حياة التشرد قط، إذ تكفل وجوده ضمن عائلة مستقرة عاطفية، كل الأسباب الممكنة لتأمين التحاقه بالثانوية الوحيدة للأفارقة في دائرة لويفيل. وإذا ما قدر للمرء إحصاء عدد الحوادث الدرامية التي أثرت عاطفيًا على حياة محمد الشاب لأمكنه حصرها بحادثتين اثنتين؛ تعلقت الأولى بالظروف العنيفة التي أحاطت بمقتل الفتى الافريقي تانيت، ابن الـ14 ربيعًا، على يد رجل أبيض يدعى روي براينت، أصرت المحكمة على براءة براينت من التهمة المنسوبة إليه، عبر النظر إليها كنوع من أنواع الدفاع عن شرف الرجل، الذي تجرأ الولد على تدنيسه عبر مغازلة زوجة الأخير. فيما تعلقت الأخرى بالطريقة المهينة التي صاحبت طرده من قبل نادل إحدى الحانات المخصصة للبيض، رغم احتمائه وراء ميدالية الأولمبياد الذهبية، وفق الصيغة التحقيرية الشائعة للنظر لكل أفريقي كـ"ولد" مهما علا شأنه أو سنه: "ما الذي تفعله هنا يا هذا؟ هذا مكان مخصص لغيرك يا ولد".

يمكن القول إن المسار الذي اختطه كلاي الشاب لنفسه إزاء سياسات التمييز العنصرية، قد تميز بالحذر والمراوغة من جهة، وبالجذرية والمغايرة من جهة أخرى. أما لناحية اتصافه بالحذر فذلك إنه تحاشى عن قصد إظهار أي موقف واضح لصالح أي من تياري المقاومة الشائعين في الوسط الأفريقي آنذاك طيلة الأربع سنوات التي سبقت حصوله على لقب الملاكمة في الوزن الثقيل المعروفين بحركة "الحقوق المدنية" وتنظيم" أمة الإسلام". بل إننا نراه يتقصد المراوغة واللعب على الحبال فيما يتعلق بالانتماءات العقائدية إلى كل من الإسلام والمسيحية، ذلك أنه في الوقت الذي كان يقبل وضع لقبه واسمه في خدمة رجال الأعمال البيض في دائرة لويفيل، كان يقيم صلة ما مع أحد أئمة "أمة الإسلام". وهو موقف لا يمكن فهمه إلا عبر إرجاعه إلى تأصل مفهوم "النجاة بالذات" في ذاته، تلك النجاة التي دأب الوالد غرسها في ذهن ابنه الشاب إذا ما أراد الحياة في بيئة معادية لكل ماهو أفريقي، بيئة يتمتع بها البيض بموقع المقرر والسيد، فيما يتراجع بها الأفريقي إلى موقع العبد أو اللاشيء، الذي لا تساوي حياته في العرف السائد شروى بعير.

أما لناحية إتصاف سلوكه بالجذرية، فيتمثل بتعمده إقامة الجسور مع تنظيم "أمة الإسلام" التي كان شعاره الرئيسي "الانفصال أو الموت"، أي الانفصال عن دولة الرجل الأبيض وتأسيس دولة خاصة بالأفريقي، وهو الموقف الذي كان يتعارض جذريًا مع موقف غالبية المشاهير من الفنانين والرياضيين الأفارقة الذين كان ينظر إليهم كحلفاء طبيعيين لحركة "الحقوق المدنية" التي تدعو للاندماج. وما من تفسير لتلك المغايرة في الموقف سوى كونها الأقرب إلى نفسية كلاي الشديدة الاعتداد بالنفس، كما أنها الأقرب إلى نفسيته الراغبة بالانتقام والخلاص من هيمنة البيض الطاغية.

على ضوء السيرة الذاتية لمحمد علي كلاي يمكن القول بأن لا شيء مميز في معايشة الشاب لسياسات التمييز العنصري مقارنة بمعلمه اللاحق مالكوم إكس

على المقلب الآخر نتعرّف على حياة مغايرة في معايشة مالكوم إكس للعنصرية الأمريكية، إلى الدرجة التي يمكن القول أن مصيره بها قد ارتبط على نحو قدري لا فكاك منه. فقد وعى على الدنيا وهو ابن لرجل كان خطيب وإمام وداعية إسلامي، من أتباع ماركوس غار في 1887ـ 1940، الذي كان أول من تبنى فكرة بناء قوة اقتصادية خاصة بالأفارقة في الداخل الأمريكي، كما سعى في الوقت نفسه لاستقلال الأفارقة الأمريكيين في دولة خاصة بهم.

اقرأ/ي أيضًا: بعد أكثر من خمسين عامًا.. تفاصيل جديدة عن اغتيال مالكوم إكس

ألقى مقتل أبيه، وهو في سن السادسة على يد مليشيا الكوكلوكس العنصرية البيضاء عبر ضربه حد الموت ومن ثم رمي جثته على سكة قطار الشوارع، أطلالًا قاسية على حياته، دفعته على العيش في ملاجئ الأيتام أولًا، ومن ثم كابن متبنى في بيوت البيض ثانيًا، أثر انهيار أمه نفسيًا وإدخالها مصحة الأمراض العقلية وهو في عمر الثالثة عشرة. اختبر سياسات التمييز العنصري على مستقبله لاحقًا عندما أخبره معلمه أنه غير مؤهل لدراسة الحقوق في الجامعة رغم تفوقه الدراسي، لا لشيء سوى لأنها مهنة البيض لا الأفارقة. وهكذا ستكون حياة مالكوم اكس خيطًا طويلًا من الولدنة وفائض العنف والتسكع وبيع أوراق اليناصيب غير القانونية، ومن ثم دخوله مهنة المتاجرة بالمخدرات، ومن بعدها تسهيل الدعارة، وصولًا إلى تورطه في سرقة أحد البنوك الأمر الذي سينتهي به إلى السجن لمدة عشرة سنوات.

في حين كان يمكن لحياة إكس أن تنتهي فور دخوله إلى السجن، فإن الأقدار قد ساهمت بولادته من جديد، فقد أسهمت دعوته إلى تنظيم "أمة الأسلام" التي كان يقوم بإدارتها المرسل إلايجا محمد، على نهج ماركوس غارفي، إلى تغيير جذري في حياته، قادته إلى أن يصبح خلال عامين من دخوله التنظيم الناطق الرسمي له، وأن يحتل بجدارة منصب الرجل الثاني، الذي نجح من خلال عمله الدعوي كإمام ومن ثم كداعية وأخيرًا كخطيب مفوه أن يرتقي بأعداد المنتسبين من 400 إلى 30 ألف شخص، وأن يضع "أمة الإسلام" بقوتها الاقتصادية وثقلها الجماهيري على رأس الحركات المناهضة لسياسات التمييز العنصري جنبًا إلى جنب مع حركة "الحقوق المدنية" بقيادة لوثر.

من الوئام إلى الصدام.. ثنائية المعلم والمريد

لم يسع مالكوم إكس إلى لقاء كلاي ولم يبد اهتمامًا قط بالتعرف على بطل الملاكمة الشاب قبل حزيران/يونيو 1962، ذلك أن زعيم التنظيم إلايجا محمد كان قد حرص على أتباعه الابتعاد عن فخ الوقوع في غواية المشاهير من كبار الفنانين والرياضيين، ربما لاعتقاده بأنهم أصحاب مشاريع فردية لا يحركهم إلى المجد سوى الرغبة بالخلاص الفردي لا الجماعي على شاكلة جماعته. لذا يمكن القول إن لقاء التعارف العابر بين الرجلين قد تم بمبادرة شخصية من إمام جامع ميامي سام ساكسن، مرشد كلاي الديني، على مدار السنتين الماضيتين. كان القصد منها إظهار إنجازه الفردي باستقطاب أحد المشاهير من جهة، ودعوة مالكوم إكس لتوظيف تلك المكانة الشعبية لدى كلاي لصالح التنظيم.

مع أن اللقاء ـ الصدفة قد حقق المطلوب منه عبر إثارة انتباه إكس لشخصية كلاي المفتونة بحب الظهور وتأكيد الذات، إلا أن الصداقة أو قل الاستثمار السياسي لمكانة محمد علي قد تأخر إلى آذار/مارس 1963، موعد مباراته ضد دوغ جونز. أما ما لم يتأخر فهو تأثير مالكوم على البطل الشاب، الذي أظهرت الوقائع التالية للقاء أنه لم يخرج عن حذره بارتداء الزي الرسمي لأمة الإسلام وحسب، الذي كان يتألف من بدلة سوداء مع قميص أبيض، بل تخطاه إلى تبني أفكار مالكوم نفسها عن سياسية اللاعنف، ومن ثم الإعلان عنها على صيغة تصريح صحفي لمراسل "ذا نيويورك"، الذي بادره بالسؤال عن رأيه بسياسة اللاعنف التي يتبعها أنصار حركة الحقوق: "أنا شخصيًا لا أؤمن بسياسة اللاعنف. لدي إيمان عميق بتلك السياسة التي تقول: العين بالعين والسن بالسن".

لم يسع مالكوم إكس إلى لقاء كلاي ولم يبد اهتمامًا قط بالتعرف على بطل الملاكمة الشاب قبل حزيران/يونيو 1962

لم يدر في خلد كلاي وهو يخطو خطواته الأولى نحو صداقته مع المعلم أكس بأنه سيكون ضحية العلاقة المتوترة بين إكس وزعيم أمة الإسلام المرسل إلايجا محمد، والتي بدأت على خلفية الرغبة العميقة لإكس في تحقيق العدالة الفورية، الاشتباك المباشر مع النظام العنصري، عبر انخراط أنصار جماعته في حركة الاحتجاجات التي كانت تقوم بها حركة "الحقوق المدنية" ضد سياسات العنصرية، ونقلها إلى مستوى أكثر تصعيدًا يتمثل بالرد على العنف بالعنف المضاد: "إياكم والوقوع تحت تأثير أباطيل الواعظين المنبطحين من سود البشرة. فحين يهجم على المرء كلب، لا حيلة أمامه سوى إبعاده عنه بالضرب، سواء كان يمشي على اثنتين أو على أربعة". هذا في الوقت الذي ظل تفكير الزعيم إلايجا مترددًا ومحافظًا إلى أقصى درجة، تاركًا مهمة تحقيق العدالة المؤجلة، الخاصة بالعقاب والمحاسبة في رسم العدالة الإلهية.

اقرأ/ي أيضًا: فيلم "Judas and the Black Messiah".. قصة القائد الكاريزماتي يرويها مُخبر

ظلت جذوة الصراع بين الرجلين ثاوية، إلا أن فجرها تعليق إكس على حادثة اغتيال جون كيندي في 22 تشرين الثاني/نوفمبر 1963: "إن مقتل الرئيس حصاد ما زرع"، في إشارة مواربة منه لتورط إحدى عصابات البيض التي كان ينسق معها كندي في قضية خليج الخنازير في مقتله، وما زاد الطين بلّة تأويله اللاحق لذلك المثل الشائع، الذي بدا فيه متندرًا على مقتل الرئيس قد تصدرت معظم عناوين كبرى الصحف الأمريكية: "ولأنني شاب ريفي، فإن حصاد ما زرعنا لا يحزنني أبدًا، بل يسعدني دومًا". الأمر الذي استدعى عليه غضبًا عنيفًا من الزعيم وصل حد كف يديه عن العمل لمدة ثلاثة أشهر، كانت في حقيقتها نوعًا من النفي خارج إطار جماعة أمة الإسلام، وما ذلك سوى عقوبة له على استخفافه بأوامر الزعيم، الذي أصر على ترك مسألة التعامل مع قضية الاغتيال مناطًا به شخصيًا من جهة، وإقحامه "أمة الإسلام" في قضية لا ناقة لها فيها ولا جمل.

خلال فترة النفي تلك حاول إكس ما استطاع للخروج من المأزق الذي وجد نفسه فيه، فسارع إلى تدبيج العديد من رسائل الغفران إلى زعيمه وأبيه الروحي إلايجا محمد، ولكنه لم يحصد سوى الشعور بالمرارة والخيبة. ففجأة تفتق ذهنه عن الاستعانة بمحمد كلاي، حيث رأى بحدث إقناعه بالانضمام العلني إلى "أمة الإسلام" سيكون بمثابة الورقة الرابحة لتذكير الزعيم بأهيمة دوره المحوري في التنظيم، وإنه ذلك الشخص الذي لا يمكن شطبه أو الاستغناء عنه بمثل هذه السهولة. الأمر الذي يشرح سر سفره إلى إقامة كلاي عدة مرات، ومن ثم حرصه على حضور مباراته لانتزاع لقب الملاكمة في الوزن الثقيل من لستون، بل إصراره على تقديم الدعم النفسي له قبلها بقليل، لأنه كان يخطط لاصحاب علي إلى احتفال "عيد المنقذ" الخاصة بالزعيم، الذي سيقام في اليوم التالي للمباراة التي قد تم تحديد موعدها في الـ 25 شباط/فبراير 1964.

إلا إن تلويح إكس بورقة كلاي لم يؤت ثماره، فقد رد زعيم الأمة إلايجا محمد على مناورة إكس المكشوفة بأختها، عبر دعوة البطل الشاب إلى مائدة الأخير كما لو كان فردًا من أفراد العائلة. وكي يحكم الطوق عليه نهائيًا قام بإسباغ أفضل الألقاب التي يمكن أن يحصل عليها عضو في التنظيم، ألا وهو اللقب الخاص بمحمد أو علي، فكيف إذا وصل الأمر حد الجمع بين الاثنين محمد علي.

لم يدر في خلد كلاي وهو يخطو خطواته الأولى نحو صداقته مع المعلم أكس بأنه سيكون ضحية العلاقة المتوترة بين إكس وزعيم أمة الإسلام المرسل إلايجا محمد

كان لدبلوماسية الرحلات الخارجية التي أقترحها إكس على كلاي بقصد تحويل قضية التمييز العنصري في الداخل الأمريكي إلى قضية عالمية أن تعمق روابط الثقة والصداقة بين كلاي وإكس، فإذا بها تتحول من وسيلة للتواصل إلى وسيلة لنزع الشقاق بينهما. وقد ظل إكس يراهن على طيبة كلاي الشاب إلى اللحظة التي التقاه في غينيا أيار/مايو 1964، حيث ظل يدير فيها ظهره له رغم إلحاحه بالنداء عليه، ليلتفت عليه أخيرًا ويواجهه بالجهة التي انحاز إليها "اسمع، لقد انصرفت عن إلايجا محمد. لقد أخطأت يا أخي، لقد أخطأت".

اقرأ/ي أيضًا: السيرة الذاتية لمالكوم إكس.. قريبًا في كتاب مسموع بصوت لورنس فيشبورن

وهكذا أنطفأت أخوة الدم بين الصديقين واستحالت إلى ماء، وبدلًا من عبارات التبجيل والتقدير المتوقعة بينهما حلت محلها لغة التشكيك والخيانة"، وكما خان يهوذا المسيح، فقد خان مالكوم إكس الزعيم إلايجا محمد. إذا ماقدر لنا تفسير هذا الشقاق الصاخب بين الثنائي اللامع، لما وجدناه إلا في الطبيعة الخاصة لكل منهما. ففي حين كان مالكوم شخصًا موهوبًا بالفطرة فيما يخص القيادة والطموح، فحين طلب منه أن يختار بين زعيمه ونفسه اختار ذاته، أما كلاي فلم تتعدى طموحاته حدود الحصول على الشهرة والرعاية الأبوية، لذا نراه يتمتع بنوع من السكينة الداخلية حيال قراره الانحياز إلى أحد الأبوين الروحيين؛ إلايجا محمد ومالكوم إكس، و ينزع راضيًا لأن يلعب دور المريد الذي لا حيلة له أمام قدرة الزعيم وسطوته الروحية.

اقرأ/ي أيضًا:

فيلم "The World We Make".. حين ينزع الحب أقنعة المجتمع العنصرية

فيلم "Skin in The Game".. حياة مستباحة على أرصفة العشوائيات